فوضى هياكل الحكم لدى الإدارة الذاتية

فوضى هياكل الحكم لدى الإدارة الذاتية

باز بكاري- صحافي كردي سوري


منذ تأسيسها في 21 كانون الثاني 2014، وحتى اليوم، تقلبت صيغ الحوكمة لدى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بين اللبنة الأولى التي ظهرت باسم مجلسٍ شعب غرب كردستان عام 2012، والذي جرت انتخاباته ضمن إطار جمهور حزب الاتحاد الديمقراطي فقط. ولاحقا أعلنت الفيدرالية الديموقراطية لروجافا 2015. ثم فيدرالية الشمال 2016، لتستقر التسمية سنة 2018 على اسم الادارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. ونظرا لحداثة التجربة و الحساسية الجيوسياسية للمنطقة، وتأثير دولة الجوار التركية على الحليف المفارق، أمريكا و بعض دول الناتو التي دخلت في حلف عسكري ضد الدولة الإسلامية داعش، وأعلنت تأييدها للقوات الكردية لمحاربة الإرهاب، وظلت في الوقت ذاته ـ أمريكا ـ حليفة استراتيجية لتركيا التي تحارب الحليف الآخر لأمريكا، أي قوات قسد و الإدارة الذاتية.

ومع بقاء المربعات الأمنية لنظام البعث في المدن التي أعلنت فيها الإدارة الذاتية، واحتلال تركيا لثلاث مدن كردية بين عامي 2018 و2019. وتسييرها لدوريات عسكرية مشتركة مع روسيا في محيط بقية المدن والقرى الكردية. تنامت المشكلات القائمة أساسا في شمال وشرق سوريا، وباتت أكثر تعقيدا من قدرة الدول العديدة المتواجدة في المنطقة. ناهيك عن ظهور ملفات اضافية، ليس في قدرة الإدارة الذاتية حلها. من بينها ملف معتقلي تنظيم داعش، و ملف المخيمات التي تأوي عوائل هذا التنظيم. و تهرب المجتمع الدولي من تحمل مسؤوليته كدول حلفاء، من أجل استحداث محكمة دولية لمحاكمة هؤلاء المعتقلين.

ونظرا لتحكم حزب الاتحاد الديمقراطي بالإدارة الذاتية، فقد تداخل الهيكل السياسي والأيديولوجي للحزب في الهيكل الإداري للمؤسسات التابعة للإدارة الذاتية. ونجم عنها فوضى إدارية و تقلبات سياسية غير مفهومة. تمثلت في تعدد المستويات القضائية لإدارة ملف العدالة الهش أساسا. و عدم قدرة الإدارة على تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين الذين حصدوا من الحرب السورية، بيوتهم الخالية من الكهرباء و الماء و الغاز، و أزمة الخبز التي لا تفتأ تتكرر. و لشدة الفوضى، و في خضم أزمة الغاز في القامشلي، و ملفات الفساد المتعلقة بالمحروقات، وزعت الإدارة الذاتية بعد معركة حي الطي في القامشلي ( نيسان 2021)، بتوزيع قناني الغاز على قاطني هذا الحي الذي كان تحت سيطرة الميلشيات التابعة لنظام البعث" ميلشيا الدفاع الوطني". و قد وزعت الإدارة تلك الاسطوانات في مرأى بقية المواطنين الذين كان يتحسرون على كونهم ليسوا من قاطني ذلك الحي.

أسست الإدارة الذاتيّة، لما يمكن أن نطلق عليه اسم "المؤسسات الفوضوية"، والمتمثلة في الهيئات وهياكل الحكم في المنطقة من وزارات وإدارات ومؤسسات هي في طبيعة الحال، هياكل إدارية فارغة من منهجية واضحة للعمل، وإنما تدور في فلك توفير أدوات الحكم للإدارة الذاتية، وأدوات الإقصاء التي يمكن أن توفرها للقضاء على الخصوم السياسيين.

في مطلق الأحوال، تقوم فكرة هذه المأسسة على كسب أكبر قدر ممكن من التجنيد العقائدي في صفوف حزب الاتحاد الديمقراطي، بصورة تتماهى مع أيديولوجيتها الفكرية التي تقوم على فكرة العسكريتارية المجتمعية أو "الثورية المستدامة"، محولة كل القطّاعات المدنية في مؤسساتها إلى مراكز تجنيد عقائدية. فالاتحادات والنقابات ومراكز توثيق الانتهاكات والمؤسسات التعليميّة، كلها تنبع من فكرة أن تصب الكتلة البشرية في نهر أفكار حزب الاتحاد الديمقراطي.

مثالاً؛ تجاوز الشبيبة الثّورية للمؤسسات العسكرية والأمنية ومؤسسات التجنيد الإلزامي، وتحولها من جهة طلابية تتبع لحركة المجتمع الديمقراطي، إلى مؤسّسة أمنية بوليسية، تعمل على القضاء على الاختلاف السياسي، وبالمقابل تجنّد القصّر في عقيدة الإدارة الذاتية.

هذا الجمود العقائدي الذي انتهجته الإدارة الذاتية في نظام حكمها وهياكلها في شمال وشرق سوريا، أسهم، بفاعلية، في غياب الثقة، منذ تأسيسها، بينها وبين المجتمعات المحلية التي تحكمها الإدارة؛ فعوضاً أن تكون هذه المؤسّسات الّتي أطلقتها الإدارة الذاتية هي مؤسّسات خدمية وسياسيّة تحاكي طبيعة ظروف المنطقة، تحوّلت إلى مؤسّسات أمنية، تمارس الإقصاء السياسي، وتضع محدّدات للحرّية الممكنة في التعاطي معها، وشكّلت مجالس محليّة، تتيح لها الفرصة لإجبار كل المختلفين سياسياً معها على التعامل معها، وبالمقابل تجبرهم على الحاجة للتواصل مع مؤسّساتها.

بشكل أوضح، لم تحاول هذه الإدارة، حتى الآن، أن تتعامل مع المجتمع المحلي على أنها نظام حكم وسلطة، وإنما تتعامل على أنها طرف سياسي، تعمل من أجل احتواء أكبر قدر من المواطنين في صفوفها، أي أنها تعمل ضمن برنامج انتخابي يوفّر لها قاعدة جماهيرية، لكن هذه القاعدة الجماهيرية تتوفّر بالإكراه والحاجة، وتختفي مع اختفاء الحاجة والظرف.

هذا الإرباك الهيكلي لدى الإدارة الذاتية، أدى إلى حدوث إرباك في قوات سوريا الديمقراطية أيضاً؛ فحتى الآن ثمّة غموض حول تبعية هذه المؤسسة ودورها في الإدارة الذاتية، ومكانتها. قوات سوريا الديمقراطية تتحول مع تحول شكل نظام الحكم القائم، فهي أحياناً مؤسّسة مستقلة عن هيئة الدفاع، وأحياناً تتبع لها، وأحياناً تكون جيش حماية الحدود، وحتّى الآن لا يفهم أين مكانة هذه المؤسّسة في صفوف الإدارة الذاتية.

يسبّب هذا الإرباك لا وضوح في مشروع وتطلعات الإدارة الذاتية؛ إذ أن قوات سوريا الديمقراطية كتركيبة مكونة من كتلة غير متماسكة قومياً ودينياً من حركات عسكرية مختلفة تأسست عقب الثورة السورية، وهذه القوى تنتمي إلى مناطق جغرافية هي خارج مناطق سيطرة الإدارة الذاتية.

والحال أن كل هذا الخلل في هيكلة الإدارة الذاتية، أدى، بطبيعة الحال، إلى نشوء حالة من اللاستقرار لدى السكان المحليين، الذين يعيشون نوعاً من النفير العام المعلن بشكل مستمر، بسبب غياب مشروع واضح يرسم حدوداً سياسية ثابتة لهذه الإدارة، والتهديدات الإقليمية التي تسعى إلى القضاء عليها.

أثرت السياسات الخاطئة للقائمين على الإدارة الذاتية إلى استنهاض لمفهوم القبيلة الذي لم يكن مجتمع المنطقة قد ارتاح من أوزارها خلال العقود الماضية، فقد تشكلت حالة من القبيلة السياسية في المجتمع، بمقابل الزعامات القلبية المقدسة أصبحنا أمام زعامات سياسية وقادة عسكريين مقدسين ممنوع المساس بهم ولو بالنقد البسيط، وفي مقابل فرسان القبيلة المقدسين باتت المؤسسة العسكرية والأمنية مقدسة وممنوع الاقتراب منها ولو ارتكبت الأخطاء وفي مقابل الشعراء والمغنين في مضافات زعماء القبائل إطلقت مؤسسات إعلامية تمجد الثورة والإدارة وحتى هذه المؤسسات ممنوع المساس بها وتوجيه النقد لها، وكل ما سبق ممنوع لأنها جاءت بدماء الشهداء، وكأن المقاتلين الذين قدموا حياتهم في سبيل استقرار المنطقة ومحاربة الإرهاب حكرٌ على الإدارة الذاتية ومسؤوليها وليسوا أبناء الناس الذين ينتقدون سوء الإدارة وينتقدون من أجل تصحيح الأخطاء، وبالتالي نتج عن ذلك شريحة أخرى هي شريحة الوشاة وهذه أيضاً كانت جزء أصيلاً من مجتمع القبيلة البائد.

قصارى القول؛ قيام الإدارة الذاتية بحد ذاتها ليس بالخطأ بل مكسب، والعمل على تصحيح المسار أيضاً ليس بالخطأ بل هو واجب وفرض عين، ونقد الحال ليس خيانة لدماء من قدموا حياتهم كرمى لاستقرار المنطقة وأمنها بل وفاء لهم، وفي المقابل البقاء على هذه الحال هو تضييع لجهود من أرادوا وما زالوا يريدون تحويل التجربة لتكون مرتكزاً وأساساً للغد الأفضل للمنطقة، وتخبط الإدارة الذاتية وترسيخ القيم التي أثبتت سابقاً فشلها اجترار للمآسي ويعيدنا دوماً للمربع الأول مربع الفشل.