شرق الفرات والتخبط المستمر في إدارة جائحة كورونا
شفان إبراهيم
إنّ فقدان المواد الغذائية واللوجستية اليومية، فضلاً عن الفقر، في منطقة كانت تغذي سوريا كلّها /من أقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الجنوب الغربي/ يشكلُ مناسَبةً، للكشف عن التباين في الخطابات والسياسات المتَّبعة من قبل الإدارة الذاتية؛ في تسيير شؤون الناس وتلبية خدماتهم. وعن حديثها حول منجزات ومكاسب "الإعلان عن الإدارة الذاتية". وليس آخرها رفع سعر ربطة الخبز السياحي "بمقتضى المصلحة العامة". وفي ذلك انكسارٌ عميق في الإحساس بالمواطن، حيث الإبداع في التبرير السطحي والاستهزاء بالآخر، عدا عن أن مادة الخبز، تحديداً، من صميم عمل الحكومات؛ في دعمها وتجويدها وتخفيض سعرها. لكن، شمل رفعُ السعر ذاك حتّى أنواع الخبز الأخرى، للأفران الحجرية أو الآلية. فيحق للناس السؤال عن كميات القمح والدقيق، في بلدنا هذا.
لذا، تجد القواعد الاجتماعية في المنطقة مشكلة ومعاناة في سياسة التسويف والتبرير، التي تسوقها ألسنةُ الإدارة الذاتية، أو مُروّجو سياساتها. وهي، إجمالاً، تقف في الجهة المعاكسة لمصلحة الأهالي. مثلاً، لا يدّخرُ موظفو الكومينات، أو لجان الصلح الاجتماعي، حدثاً اجتماعياً إلا ويستغلونه في الحديث عن منجزات الإدارة. و(النهفة) أن بعضاً من هؤلاء يرتادون دُوْرَ العزاء، الممنوعة خلال الحظر وبقرار من الإدارة الذاتية، ويستغلونها أيضاً في الترويج لسياسات الإدارة وقراراتها. والأكثر من ذلك أن موظفي الكومين، المسؤولين عن توزيع مادة الغاز المطبخية، في حيرة من أمرهم، ويساهمون مع أهالي الفقيد في البحث عن جرّة غاز، في عموم المنطقة. كل هذه التحديات والتجاذبات بين القواعد الاجتماعية والإدارة الذاتية، عمّقَها خطرُ اجتياح المنطقة من قبل الجائحة كورونا، التي تمكنت من حصد أرواح مئات الناس، وإصابة الآلاف بها، ولم تجد الإدارة الذاتية حلاً أفضل من تكرار الإغلاق الكلي والجزئي، كإجراء احترازي متَّبع في كل مكان.
لكن الإشكالية في الواقع ليست في قضية قبول الأهالي الالتزام بفرض الحظر، ما دام هذا الالتزام يبدأ من الفرد قبل السلطة. وما دام الفرد نفسه غير ملتزم، بل ويسعى لتأكيد هذا الموقف، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر إيجاد طرق للتحايل والاختفاء عن الحواجز، فإن القضية إذّاك تتجاوز السؤال عن مضمون قرار الحظر وتطبيقاته إلى الاستفسار عن أسباب كسر القرار، وتحديداً حول حصّة الإدارة الذاتية من التسبب في ردود أفعال الأهالي. فهؤلاء يلجؤون إلى الطرق الملتوية كلها، والأساليب غير النظامية، للتحايل على القرار. ولعل ما قاله أحد عناصر الأسايش، على حاجز قرية "نعمتْلي"، بصوت مرتفع وجهوري "شو القصة اليوم.. الكِلّ إمّو وأبوه متوفّين؟" هو دليل على القرار النفسي لهؤلاء، ليكونوا على تضاد مع قرار الإدارة الذاتية بفرض الحظر، الذي ربما ينظر النّاس إلى قرار الحظر هذا كغطاء لفرض القوة والسطوة، ما دام ليس من اهتمام بالوضع المعيش والإغاثي لهم. فاعتناق الأهالي سياسةَ عدم المبالاة، في ظل ارتفاع عدد الوفيات، هو جزء من المقاومة السلمية الناعمة، والمؤسف أنهم هم المتضررون. وجذرها يعود حالياً، بالدرجة الأساس، إلى ضعف الأداء الخدمي والميداني.
علماً أن النّاس ما عادت تحب سِيَر الأحزاب جميعها، الكُردية منها أو غيرها. وحتى قراراتها باتت تُخرَقُ، ولم يعد يُلتَزم بها كما في السابق. أي، الناس لم تعد تمتثل في إطار واضح وواحد لأي من تلك القرارات، بل تتخذ أشكالاً متباينة للرفض، عمقها البحث عن الراحة والهدوء. وفي هذا مشكلة، إذ إن النجاح في إبعاد المجتمعات المحلية عن المطالبة بحقوقها القانونية والسياسية، ونجاح عملية الفصل بين النخب الفكرية والثقافية عن وسطها الشعبي، من أخطر المراحل التي تمر بها أي دولة. وليست مناطق سيطرة الإدارة الذاتية بمنأى عن ذلك. ووفق بعض الفلاسفة والمفكرين، فإن الحكومات التي تشهد معارضة أو عدم قبول شعبي لممارساتها، وتحديداً عقب الخسارات العسكرية، تلجأ إلى خلق الأزمات، للتشويش على الفكر العام، وإنهاك المجتمع المحلي؛ ببحثه عن متطلباته اليومية عوضاً عن الحديث في السياسة، والاقتصاد، ونظم الحكم، والمطالبة بالكشف عن الموارد المالية.
منذ آذار /مارس الفائت، لجأت الإدارة إلى تكرار الإغلاق الكلي والجزئي، ودوماً ترافق القرار مع ضغوطات لإنهاكها وإضعافها. كإغلاق الحكومة السورية معابرَها مع المنطقة، ولو جزئياً، لأكثر من شهر. ناهيك عن رفع حواجز الحكومة السورية إتاوات العبور، للشاحنات القادمة من الداخل السوري، والمحملة بالمواد الغذائية والبضائع، وتأثير ذلك على أسعار المواد الرئيسية والأدوية في مناطق شمال شرق سوريا. ناهيك عن منع روسيا من شمول معبر "تل كوجر" بالمساعدات والأدوية، المقدمة من منظمة الصحة العالمية. وفضلاً عن الابتزاز السياسي، من قبل بغداد ودمشق، للإدارة الذاتية؛ في مقابل فتح ذلك المعبر. هذه الحال، تحديداً، تدفع بالنُخب والأهالي إلى الاستفسار عن "هيئة وعقل التنظيم والتخطيط" المفقودة، وغياب الخطط المتكاملة للموازنة بين الطلب الشعبي والعرض في الأسواق، وفرض الحظر، وتوقف الأعمال. والأسباب التي تعرّضُ الإدارة الذاتية للابتزاز الدائم من قبل تلك الأطراف، والأسباب التي تجعلها تجد نفسها محاصرةً دوماً، وفاقدةً الخياراتِ والبدائلَ. كل هذا، ناهيك عن مسلسل الأزمات المتكرر، وفقدان المواد الرئيسية التي من المفترض بالمنطقة ألّا تشهد أي انقطاع فيها، بل أن تكون مستعدة للتصدير؛ كونها المصدر الرئيس لسوريا كلها- كالخبز، والغاز والمازوت. بالإضافة إلى المساحات الزراعية الشاسعة، وسيطرة المنطقة على أهم محصول استراتيجي وهو "القمح"، وإمكانيتها في الاستثمار، أو تشجيع المزارعين على زراعة الخضار لتغطية المنطقة.
الفقراء - وما أكثرهم - لا يأبهون للشعارات أو التبريريات الخطابية. هؤلاء يبحثون عن قوت أولادهم فحسب، وأي تخلّف عن درب ذلك التأمين سيخلق لديهم ردة فعل عنيفة وعميقة، ربما تظهر لاحقاً، ولكن آثارها النفسية والمدمرة لا تختفي حتى لأجيال لاحقة، خاصة حين يتحولون إلى أدوات للضغط والمساومة، فيصبحون ضحايا الصراع بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية – إلى جانب رفع الثانية تسعيرةَ الضرائب، وما لذلك من تأثير على أسعار المواد في الأسواق. وبعد مضيّ سنة كاملة على أول حظر، وتتاليه حتى وقت إعداد هذه المادة، والسلبيات هي ذاتها، تتكرر. وهي:
1- غياب التخطيط بعيد المدى، والتنبؤِ بالمشاكل التي ستترافق وعمليات الحظر. وعدم منع الممارسات التي يجد فيها الفايروس مرتعاً خصباً للانتقال بسلاسة وكثافة. كالتجمعات، والاحتفالات، وإخراج الطلاب والمدرسين في مسيرات ومظاهرات إلزامية، كما حصل في بداية السنة الدراسية 2021. (مرفق جدول بياني، لعدد الإصابات منذ بداية 2021 وحتى نهاية آذار/مارس من السنة ذاتها).
2-مرور عام كامل وأكثر، على وعود الإدارة الذاتية للأهالي الفقراء، بتوزيع المساعدات والسلال الغذائية، لكن دون أن تفي بوعودها. وضعف القدرة الشرائية للأهالي، بسبب الحظر وعدم الاهتمام بوضعهم المادي، أدى بدوره إلى التمرد، والنفور من القرارات، وعدم الالتزام. فالواعظ وردة الفعل النفسي للأهالي، جراء الحِنْث بالعهود، لا يختفي بل يبقى أثره حتى حينٍ. وما يُسببه من ردة فعل ليس أقلها عدم الالتزام بالحظر.
3-إخفاق المنظمات الإنسانية والمحلية في رفع مستوى الجاهزية والشعور بالخطر العميق، وعدم تقديمها أي مساعدات للأهالي، وإخفاقها في إثبات وظيفتها الأساسية؛ في المراقبة والضغط والتوعية، بل ركنت إلى انتظار تمويل خارجي (مهم جداً). لكن، المصاريف الإدارية المرتفعة يمكن تجاوز قسم منها وضغطها.
4-يبلغ عدد المنشأة الشعبية الآلاف، من مطاعم ومَقَاهٍ ومرافق عامة. وعادة ما تقتني كميات كبيرة من مادتي الخبز والغاز المطبخي. ومع تكرار الحظر الكلي، لا حاجة لها إلى شراء تلك الكميات؛ ما دامت لا تستثمرها في أعمالها اليومية. ومع سريان الحظر: أين تختفي تلك الكميات التي يجب أن تكون فائضاً عن الاستهلاك؟
5-وهو ما يساعد العقل النقدي في التخمين حول استفادة الإدارة الذاتية من الحظر؛ لتخفيف النقمة الشعبية، والضغط الناتج عندها عن قلة وفقدان المواد الرئيسية في الأسواق.
الأسئلة الممزوجة بالحيرة والقلق، المترافقة مع كل قرار بفرض الإغلاق الكلي أو الجزئي. وعلامات الرفض والاستهتار واللامبالاة بالحظر، التي يصرون على إظهارها عندما تأتي وسائل الإعلام المختلفة. كل ذلك يشكل مؤشرات على تخطي عامل الخوف؛ ربما نتيجة وقناعة. فاتباع سياسة إشهار الرفض والغضب أفضل من الاستمرار في الكبت وعدم التجرؤ على البوح.
وهم يُدركون أن الحظر يَقيهم انتشارَ الوباء، لدرجة يغدوا معها صعباً السيطرة عليه. هذا التنميط للعلاقة بين المجتمع الأهلي والإدارة الذاتية، أصبح ظاهرة جديدة في مجتمعنا، تستحق المتابعة والبحث من قبل المختصين والإدارة الذاتية تحديداً. خاصة أن الأدبيات الثورية، وحجم التضحيات، وكل أساليب التخويف، لا تجد مكانة لها لدى البطون الجائعة، ولم تفلح في ضبط سلوك الشباب والنشء الصغير، ولا الطلبة الذين باتوا يتحدثون علانية عن فقرهم وافتقادهم إلى مصروفهم، وكل ما يحتاجونه في ظل تضخم الأقانيم الاقتصادية التي تديرها الإدارة الذاتية. وهو ما يشكل منعطفاً خطيراً للإدارة السياسية والخدمية، الساعية إلى شمول ظلالها على قاطني هذه الرقعة الجغرافية جميعهم.
مؤخراً، أعلنت هيئة الصحة للإدارة الذاتية، في مؤتمر صحفي، عن السوء الشديد للوضع الصحي، وإمكانية حصول كارثة. هذه الديناميات التي تعتمد عليها ما عادت كافية ولا مقنِعة؛ خصوصاً أن الهيئة نفسها، صرحت سابقاً أن لديها "كيتاً"؛ يكشف المرض خلال 30/ ثانية. فالناس لا تنسى يا سادة. وإن كان الحظر هو السلاح الأكثر فاعلية لدى كل الدول الموبوءة، لكنّ ترك المواطن على مبدأ "اذهبْ.. ولكَ ربُّكَ" لا يجيد نفعاً.
الميل، لدى الإدارة الذاتية في استمرار طرح نفسها كبديل دائم، ومنقذ للمنطقة، على أساس أنها البديلة عن سيطرة داعش، أو عودة قوات الحكومة السورية، أو سيطرة تركيا على ما تبقى من المنطقة، ما عاد كافياً. وليس من اليسير، بعد سلسلة أزمات، إقناع الوسط المجتمعي بهذه الحجج ورسم المخاوف.