"شعوب" جمهورية الموز

باز علي بكاري

صاغ أوليفر هنري مصطلح جمهورية الموز في مؤلفه الملفوف والملوك للإشارة إلى الدكتاتوريات التي تسمح باستغلال أراضي دولها مقابل المال، ومن ثم تطور المصطلح ليستخدم في الدلالة للدول التي يكون فيها النظام السياسي الحاكم ولائه للخارج في مقابل حماية الحكام، ولعل مقال فورين بوليسي الأخير عن الأردن وكيف أن حكام البلاد يرهنونها للولايات المتحدة الأمريكية حماية لعرشهم أحدث مثال لدولة توصف بجمهورية الموز.

لكن ماذا لو قرأنا قصص هنري من زاوية أخرى، واضعين مسلمة فداحة نظام الحكم الدكتاتوري بما ينتج عنه من فساد يصيب بنية المجتمع وهيكل الدولة على جنب، ولنذهب في جولة بين حواري وأزقة جمهوريته المتخيلة التي أسماها أنكوريا، ونقرأ أحوال الناس فيها وما يفعلون؟

شوارع مكتظة بمارة هائمين على وجوههم، دخان كثيف يخرج من مكعبات اسمنتية تسمى مقاهي، أطفال كبار يعملون في مهنٍ شاقة، أمهات أطفال لا تعين من الحياة سوى الانجاب وترقيع الثياب، رجال دين دهاة ولا يتسخدمون دهائهم سوى لشجذيب لحى المجتمعات وفق لأشكال تسمح لهم بجرها كما يشتهون، ومدعو معرفة جهلة، مقاتلون مستعدون للتضحية من أجل مقدسات لا يعرفون سبب تقديسها، مكتبات تبيع الدفاتر المدرسية الموحدة التي تتصدرها صور القائد، وجرائد تباع بالوزن لتنظيف بلور النوافذ، لا كتب في مكتبات جمهورية أنكوريا ... بؤس مدقع هو القاسم المشترك بين مجتمعات جمهوريات أنكوريا التي نعيش فيها اليوم، ومن ثم التذمر والاتكالية.

ليس ثمة شك أن شعب أنكوريا يقضي يومه في العمل والعمل الشاق أيضاً لكن لا ينتج عنه سوى الشقاء، وكل يوم يلد سابقه في صيغة أكثر تشوهاً.

والعمل كنقيض للبطالة والكسل يسمو بالإنسان ويذهب المجتمعات نحو التطور والنماء، العمل كضد للخمول والكسل حركة سامية في مطلقها، لكن عمل الأنكوريين يسمو فقط بحكامهم وينزل بهم للحضيض، بل ويعيد انتاج مفهوم الاستعباد، ويحولهم لعبيد وفقاً للتعريف اليوناني" بأنهم ليس لديهم الحق في التفكير وأنهم أدنى درجة من الإنسان الذي يملك العقل ولا يجب أن يشغل نفسه عن الفكر بالعمل اليدوي الشاق"، وعمل الأنكورين ليس دليل همة ونشاط، بل دليل كسل، الكسل بفمهومه الدارج لا وفقاً لفمهوم بول لافارغ الذي طرحه في كتابه "الحق في الكسل" وهو كسل محمود وضروري، خاصة لشعب كالشعب الأنكوري.

هنالك ما يدعو للريبة لدى الأنكوريين، وكأنهم يهربون للشقاء والجهد العضلي من التفكير، لديهم شيء من الإدمان على العمل، ينهكون أجسادهم ويريحون عقولهم أو يقنعونها بالراحة، ثمة اتفاق ضمني بين الأنكوريين وحاشية القائد من وعاظ وكتاب وقادة رأي، بأن على الأنكوريين العمل لصالح القائد وحاشيته، وعلى حاشية القائد التفكير عوضاً عنهم، واتخاذ القرارت عوضاً عنهم، واختيار ما يلبسون، وأنواع الطعام الذي يصلح لهم، فهم كإدمانهم على العمل، مدمنون على جهل وينفرون من المعرفة خوفاً من أن تذهب نشوة جهلهم.

أمر آخر يمكن ملاحظته بين صفوف الأنكوريين، أنه لا مكان للشك والسؤال في عقولهم، فليس لديهم شك في القائد ولا يسألون لما هو القائد دون غيره، وليس لديهم شك في الدين الذي فرضه عليهم رجال الدين العاملين لدى القائد، ولا حتى يسألون لماذا يجب أن يكون لديهم دين في الأساس، وليس هناك ما يدفعهم للشك في أسباب تذمرهم، والسؤال عن كيفية التخلص من أسباب التذمر، ودوماً ينتظرون من يحمل عنهم أوزراهم.

أيضاً شعب جمهورية أنكوريا شعب اتكالي في كل شيء، ووفق للمرويات الشعبية أن ثورة ما حصلت قبل سنوات، ثار الشعب على القائد السابق، ولكن وهم في عز ثورتهم استداروا باحثين عمن يقود لهم ثورتهم، ويكتب مانفسيو الثورة، ويخطب فيهم ليحكي لهم عن أسباب وأهداف ثورتهم، ويقود ثورتهم للنجاح، وانقسموا على أنفسهم وكل منهم قبل بأول من سمع به أنه تقدم ليكون القائد والمرشد، فما كانوا قد صرخوا أول صراخات ثورتهم حتى وجدوا أنهم تخلصوا من قائد لينتجوا قادات بنفس سوء القائد السابق.

في المطلق لا يمكن وصف شعب أنكوريا بأنه شعب عاجز، أو شعب ضعيف، بل هو شعب جاهل وكسول، وصابر وعديم الصبر في آن معاً، فلديه ما يكفي من الصبر لتحمل عشر ساعات عمل، لكنه عديم الصبر لقراءة كتاب من ثلاثة مائة صفحة.

وقد يبرر شيء للأنكوريين خنوعهم هذا، وهو الخوف، فالإنسان بطبيعته يخاف ما يجهله، ويأمن لما يعرفه وإن كان الأمر سيان، فعدم تجرؤه على السعي وراء معرفة المجهول يبقيه حبيس معرفته الحالية، فرغم معرفة الأنكوريين أن رجال دينهم يغشونهم ويصيغون لهم ديناً مختلقاً وفق أهوائهم وأهواء القائد، لكنهم يهابون البحث خلف حقيقة هذا الدين، وهذا يسيري على كل شيء في حياة الأنكوريين.

وبالعودة لواقعنا، فحال شعب جمهورية أنكوريا المتخيلة اختزال لحال شعوب منطقتنا، وكل ما سنجده في أي زيارة لجمهورية أنكوريا من أمراض مجتمعية نجدها في مجتمعاتنا، فدكتاتورياتنا هي نتاج جهلنا وكسلنا، وما كان لحكامنا أن يكون على ما هم عليه لولا أنهم عرفوا ما نحن عليه.

في النهاية، ليس هناك جمهوريات موز بحسب النظام السياسي فحسب، بل هناك شعوب موز، وثورات موز، ومثقفو موز، وأحزاب موز كلها مجتمعة تنتج واقعنا الحالي والمستدام للأسف، ما زلنا نؤجرعقولنا لآخرين يستثمرون فيها.