خارج المدن التاريخية وداخلها: هوية المكان خارج نظام الزمن

خارج المدن التاريخية وداخلها: هوية المكان خارج نظام الزمن

نبيل عبد الفتاح- مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

المدن والأمكنة تحمل في تكوينها التاريخي والاجتماعي والمعماري وتطوراته، جزءاً من هوياتها وتحولاتها وتوتراتها وازماتها، كتعبيرات عن جدل الإنسان والمكان، والفعل الإنساني في قلب فضاءات المدن، وجمالياتها وقبحها وتنظيمها وعشوائياتها، وخاصة المدن الأجمل التاريخية من مثيل روما وباريس وفيينا.. إلخ. خاصة تطورها التركيبي وطبقاته وطرزه المعمارية، ومحمولاتها من الابداع الثقافي والموسيقي والمسرحي والأدبي والتشكيلي والشعري والتقني، وحركياتها الاجتماعية وتحولاتها الاقتصادية وتوزيعات طبقاتها الاجتماعية علي خريطة المدينة واحياءها وضواحيها وطرق مواصلاتها وطرقها، والمدن الفرعية حولها التي لاتنفصل عن الروح المدينية. هذا التركيب الاجتماعي التاريخي جعل المدينة والأمكنة حاملة لهوياتها المتعددة في وحدتها الكلية. هوية المدينة الم تعد قاصرة علي التراث المادي فقط، وإنما تتعداه الي رمزياته والتعدد في طبقاتها التاريخية حتي التحديث ي إطار تطور الرأسمالية الغربية والحداثة ثم تطورات مابعد الحداثة الي المدن الكونية الكبرى حتي بعض الفوضى المعمارية في مدن جنوب العالم العريقة في القاهرة وطهران وغيرهما التي تعبر عن اضطربات وتوترات الهوية ومنازعاتها، واللعب السياسي بها علي روح المدينة وعدم قدرتها علي الحفاظ علي طوابها وموروثاتها في انتظام، وتمدد تشوشاتها الهوياتية وثقافتها وترييفها.

الأمكنة التراثية التاريخية هى جزء من الذاكرات الجماعية، وتشكل أحد مكونات الهويات " الفردية " والجماعية للجماعة فى المجتمعات الانقسامية، وأحد مكونات الهوية الوطنية فى الدولة/ الأمة الحدثية. من هنا كان الحفاظ على التراث المادى للأمكنة، جزءًا من سياسة الأصالة والتكوين التاريخى للهوية وتجديد بعضًا من ثوابتها فى إطار المتحولات فى تشكيلات التخييل الجمعى والفردى لها. بعض لأنظمة السلطوية العربية تتعامل بلا مبالاة مع التراث المادى غير الذائع من منظور سياحى، من حيث قدرته على تلبية دوافع الطلب السياحى الخارجى على الأمكنة. ومحمولاتها الأثرية، ويلجأ بعضها إلى هدم، وتغيير هوية وثقافة المكان، بهدف إنشاء بعض الأبنية الحديثة، من خلال طرز معمارية حداثية أو ما بعدها، دون مراعاة للشخصية الأثرية التاريخية، وعوالمها من طرز البناء، وجمالياته وعصره.

هذا النمط الشائع من التفكير والسلوك البيروقراطى العربي، يعكس هيمنة العقل الآداتي ا، الذى يفتقر إلى المعرفة التاريخية والوعى بها. ثقافة المكان/ الأثر وجمالياته كحامل للذاكرة والهوية، تبدو خارج التكوين التعليمى، والثقافى، فى المراحل المختلفة للتعليم، من هنا تمددت ظواهر الإهمال السلطوى والجماهيرى بهوية المكان وتاريخيته، وأهميته فى تشكيل الوعى التاريخى، والجمالى لدى قطاعات اجتماعية واسعة على نحو ما نشاهد منذ أكثر من ستة عقود. من هنا انتشرت ظاهرة أمية العيون –إذا استعرنا وصف كميل حوا -، ومعها ثقافة القبح على نحو ما نشاهد فى المدن العربية التاريخية، التى شهدت ولا تزال إهمال للتراث المادى.

تحولت المدن العربية التاريخية إلى مقالب زبالة معمارية، تعبيرًا عن الفوضى وسطوة عقلية المقاولين وتواطؤاتهم مع تدهور العقل المعماري وتكوينه الثقافي والجمالي مع الفساد الوظيفى في قلب البيروقراطية، وانفجار المناطق العشوائية، خارج الشروط الفنية، وطبيعة الأمكنة فى قلب المدن، أو على هوامشها.

أصبحت ثقافة القبح المعمارى، وفقدان الشخصية المعمارية وطرزها وجمالياتها مواكبة للأنفجارات السكانية، والبطالة، وانهيار التعليم، وتراجع الطلب السياسى والاجتماعى على الثقافة عموما، وغياب ثقافة المكان وجمالياته وذائقته فى الوعى الجمعى، والسلطوى، وفسادهم المبين. أدى ذلك إلى تشكيل وتنامى ثقافة القبح وتمددها لتسكن حنايا الوعى الفردى والجماعى فى المجالين العام، والخاص. من هنا تنامت ظاهرة هروب الأثرياء، والنخبة السياسية، من المدن التاريخية، وتركها للإهمال والتشوه إلى التجمعات المغلقة، والمسيجة بالأمن الخاص، وبها كل الخدمات ومناطق اللهو، والأسواق، والتريض.. إلخ.

حالة سوسيو- نفسية، تعكس انشطارات والأغتراب عن روح وثقافة المحمولات التاريخية للمدن والحواضر الكبرى. من هنا تزداد حالة الانعزال عن روح المدينة، والانفصال عن حركة تفاعلات الأمة، وإلى تشكل جماعات العزلة الجديدة، التى تدير حياتها اليومية عبر الحياة الرقمية، والعمل الرقمى. من ثم يبدو المكان التاريخى وهويته محض صور رقمية معزولة عن الوعي الحسي لساكنى مدن العزلة. من ناحية آخرى، يعيش المهمشين والفئات الشعبية، والوسطى التى تتأكل قوادمها مع عسر الحياة الاقتصادية، والبطالة، مع الفوضى المعمارية ومحمولاتها من ثقافة القبح المعمارى، وانهيارات هوية المدينة التاريخى، وتراثها المادى وشحوب رمزياتها وهويتها اللامادية.

مدن الأنفجارات السكانية، وفوضاها تحمل معها موت ثقافة المدينة الحاملة للحداثة وقيمها، والتحديث السلطوى المادى التاريخى، ومعها قيم الحريات العامة والفردية، وإغلاق المجال العام.

ترييف أو بدونه المدن فى العالم العربى، وغزو الذوق المعمارى العشوائى، شكل ولا يزال أرضية لتمدد الأصوليات الدينية اللامبالية بقيم وثقافة المدن وجمالياتها، وتراثها المعمارى –باستثناء دور العبادة-، وذلك على نحو ما نرى فى تحولات المدن الكوزموبولتيانبة الكبرى كالإسكندرية، والقاهرة التى غادرت تواريخها وثقافاتها لصالح الأصولية الدينية، وهندساتها الاجتماعية فى نظام الزى والخطاب اليومى، ومحمولاته من الازدواجية، والتواكلية والقدرية، واللامبالاة بنظام الزمن، والحياة خارجة لصالح ماضٍ متخيل عبر تأويلات لا تاريخية، باتت تسيطر على السلوك الاجتماعى، ونظام التفكير " وسلفنة المدن "الذى تبدو غائبة عن ثقافة المدينة وحياتها وقيمها وجمالياتها، انحدارها نحو سرديات تاريخية تخييلية يحاولون إحياءها لصالح فوضى المكان وهوياته وتاريخه ومحمولاته وتخييلاته. في مدن العزلة الاجتماعية خارج القاهرة يسيطر نمط معيشي مترف في استهلاكه ويبدو كصور كاريكاتورية من تصورات سوقية شائعة عن الجمال ونصاعة الحيز العمراني ولاتعدو ان تكون محض كاريكاتور اعلاني فاقد للجمال والشخصية المعمارية يحاكي صورها المتلفزة في فضاء استهلاكي تسيطر عليه سلطة الأشياء من السلع والخدمات واستهلاك رقمي مواز يزيد من تسطيح الوعي الفردي والجماعي لساكني العزلة والحياة المتشيئة. من هنا تبدو هوية أمكنة العزلة شاحبة وتكرس الأنفصام المجتمعي والأنعزال عن هوية المدن التاريخية في عالمنا العربي.. حياة يصوغها الإعلانات ويحددها في عشوائية وسوقية معمارية لكي تبدو حياة في الأعلان وليست حياة وتفاعلات بشر وحركتهم الاجتماعية وابداعهم وفعل الحياة. تشيوء مستعار من مجتمعات أكثر تطورا هم بعيدين عن عوالمها الضاجة بفعل الحياة وابداعها الخلاق.