الديموقراطية (democracy) و الدمقرطة (democratization)

الديموقراطية (democracy) و الدمقرطة (democratization)

آسو للدراسات
الانتقال من الأنظمة غير الديمقراطية إلى الأنظمة الديمقراطية، أو بصورة أعمّ توسيع النفوذ فيما بتعلّق بصنع القرار والسلطة ضمن المجتمعات، أو المنظمات، أو الجمعيات والروابط. والتحول الديمقراطي هو واحد من السمات الكبرى للحداثة الغربية، أولا من حيث الانتقال إلى أشكال من الحكم جمهورية وديمقراطية، ثم من حيث توسيع الحق الدستوري وما يرتبط به من أشكال التمكين الاجتماعي باتجاه الجماعات المقصاة، خاصة النساء والجماعات العرقية والإثنية.

وبحسب صموئيل هنتنغتون ونمذجته التي يكثر استخدامها على الرغم من كونها محل نزاع، فإن التحول الديمقراطي قد جرى في ثلاث موجات كبيرة على المستوى العالمي. فقد بدأت الأولى (والأقل تميزا) مع الثورتين الفرنسية والأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر واستمرت حتى عشرينيات القرن العشرين. وكان أثرها الأساسي إقامة ديمقراطيات دائمة في أوربا الشمالية والغربية وفي المستعمرات البريطانية السابقة التي استقلت، فضلا عن بعض المحاولات قصيرة الأمد في أجزاء أخرى من العالم. وعملت الموجة الثانية، التي دامت من العام 1943 حتى العام 1962، على توسيع الديمقراطية باتجاه بلدان المحور المهزومة، وكثير من بلدان أمريكا اللاتينية، وبعض المستعمرات الأوربية السابقة المستقلة حديثاً في العالم النامي. وغالبية الأنظمة الديمقراطية في المجموعتين الأخيرتين لم تبق على قيد الحياة. أما الموجة الثالثة فبدأت في جنوب أوربا بعد العام 1974، وزحفت عبر أمريكا اللاتينية وأجزاء من آسيا في ثمانينيات القرن العشرين، وشملت مع العام 1990 معظم المعسكر السوفييتي السابق فضلا عن بعض بلدان إفريقيا.

وتنزع نظريات التحول الديمقراطي إلى طرح سؤالين اثنين مميزين وأساسيين: ما الذي يجعل التحول الديمقراطي ممكنا؟ وما الذي يتيح للديمقراطية أن تدوم؟ وتنوع الحالات يجعل من الصعب إيجاد جواب محدد، لكن هناك عوامل مهمة على هذا الصعيد، من بينها الهزيمة في الحرب (على يد قوة ديمقراطية)؛ والتطور الاجتماعي والاقتصادي، بما فيه من ظهور طبقة وسطى قابلة للحياة؛ والإجماع الواسع على الرغبة في الديمقراطية، خاصة بين النخب السياسية؛ و"أثر المثال" الذي تقدمه الديمقراطيات الناجحة الأخرى.

الديمقراطية:
حكم الشعب (الديموس، في اليونانية القديمة)، على مستوى الدولة بشكل عام، وكذلك بما يشمل أشكال الحكومة واتخاذ القرارات على مستويات أدنى. ولقد ظهرت تجارب الديمقراطية الشكلية الأبكر في أثينا، حيث ازدهر حكم المواطنين لفترات طويلة في القرن الخامس قبل الميلاد. وعملت الفلسفة السياسية اليونانية على وضع الأساس لقدر كبير من تقاليد الفكر الديمقراطي، مع أن الفلاسفة الأشد تأثيرا - أفلاطون وأرسطو - كانا ينتقدان الديمقراطية من منطلقات عدة. فقد رأى أفلاطون أن الحكم من خلال نخبة مستنيرة أفضل؛ ورأى أرسطو على الديمقراطية على أنها حكم مراتب المجتمع الدنيا، وتاليا على أنها شكل من الحكم يحتاج لأن يمزج بعناصر أرستقراطية أو ملكية كيما يضمن عدم قيام أية جماعة باحتكار السلطة على نحو دائم. وقد ربط كلاهما الديمقراطية بحكم الرعاع، والفساد، وتزعزع الاستقرار المزمن. ولم ير أي منهما أن الديمقراطية ممكنة في الدول الكبيرة، حيث تصعب أو تستحيل الحياة العامة وجها لوجه. وكانت الرواية الأرسطية - خاصة أطروحته في الجمهورية الصغيرة - قد أعيد اكتشافها في عصر النهضة وتركت أثرا في النقاشات الباكرة حول الديمقراطية والسيادة الشعبية في القرن الثامن عشر.

وتستند الديمقراطية الحديثة إلى سلسلة من التطورات في العصور الوسطى، بما في ذلك ظهور الأنظمة الشرعية التي تضمنت بعض الحقوق الفردية وقيدت الحاكم بقوانين عرفية متعددة، الأمر الذي ظهر أولا في الماغنكارتا في إنكلترا (1215) ولاحقا في تقاليد الفكر الاجتماعي الخاصة بالعقد الدستوري والاجتماعي (انظر نظرية العقد الاجتماعي). كما لعب دورا مهما على هذا الصعيد ظهور عمليات شكلية من الاستشارة بين الحاكم وقطاعات أخرى محددة من المجتمع (خاصة تلك التي شملت المراتب الثلاث: العموم والأرستقراطية ورجال الدين). ومن العوامل الحاسمة الأخرى كان تطور الفردية الحديثة، ربما في ذلك ظهور تصورات جديدة عن الذات، وقيم اجتماعية جديدة، وفضاءات جديدة للسيرورات الاجتماعية الجمعية (مثل السوق) عملت جميعا على الدفع باتجاه انزياح السيادة من الملوك إلى "الشعب". وكانت تقاليد العقد الاجتماعي لدى توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو قد استقصت معنى الشرعية السياسية في هذا النظام الاجتماعي المتغير.

وخلال شطر كبير من القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت الملكية الدستورية الإنكليزية هي النموذج الأبرز للمشاركة السياسية، حيث التوازن بين العناصر الشعبية والأرستقراطية والملكية ضمن بنية للحكم مستقرة ومزدهرة نسبيا. أما الثورتان الأمريكية والفرنسية فقد دفعتا بالمبدأ الديمقراطي إلى أبعد بوضعها السيادة كلها على أساس شعبي، حتى حين اشتملت على فصل للسلطات معقد، كما في الحالة الأمريكية، حيث الفصل بين فروع الحكومة ومستوياتها.

وتستند الديمقراطية الحديثة على مستوى الدولة إلى مفهوم سيادة الشعب: حيث تكون السلطة السياسية النهائية للمواطنين، أما اتخاذ القرار الروتيني فيوكل به المسؤولون. أما على المستوى المحلي، فتكون المشاركة المباشرة ممكنة، بل إن تقاليد الحكومة الديمقراطية المحلية سبقت ثورات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الديمقراطية على مستوى الدولة. ولا تزال طبيعة هذه الترتيبات تحظى بأهمية بالنسبة للنظرية الديمقراطية والنشاط الديمقراطي، خاصة إزاء تنامي سلطة الدولة المركزية وأنظمة الإدارة البيروقراطية. ويعد الجماعويون (الكوميونيتاريان) بين أشد المدافعين عن إنعاش المشاركة الديمقراطية (انظر الجماعوية "كوميونيتاريانيزم"). وبالطبع، فإن هناك عددا كبيرا من المواقف المضادة، من المدافعين عن التقنوقراطية (أو حكم الخبراء) نظرا لتنامي تعقيد المجتمع، إلى النظريات التي تقول بحتمية النخب (انظر النخبة والنخبوية). وهناك جدالات قديمة أخرى في داخل النظرية والممارسة الديمقراطيتين لا تزال تلعب دورا في النقاش المعاصر، بما في ذلك خطر ألا تحظى جماعات الأقلية (السياسية أو الدينية أو الإثنية أو العرقية) سوى بقد زهيد من السلطة في الأنظمة التي تحبذ حكم الأكثرية.

كما أن للجدالات حول معنى التمثيل تاريخها الطويل، الذي يمد بجذوره في السؤال عما إذا كان المسؤولون ينتخبون ليتخذوا قراراتهم الخاصة أم لينفذوا الرأي الجمعي لناخبيهم. وغالبا ما تتركز الجهود الحالية الرامية إلى تعزيز الديمقراطية على زيادة المشاركة الشعبية من خلال استخدام الاستفتاءات مثلا، أو سواها من أشكال عمل المواطنين المباشر. ويشير مصطلح الديمقراطية التداولية إلى الجهود الرامية إلى توسيع فضاء النظر في القضايا الأساسية من قبل المواطنين العاديين. ومثل هذه الاهتمامات ترتبط ارتباطا وثيقا بعمليات تحليل المعلومات المتعلقة بـ الرأي العام، الذي يفهم عموما على أنه محصلة الآراء الخاصة، كما ترتبط بمزيد من التفاهم الجمعي الناجم عن فعل الخطاب في المجال العام (انظر المجال العام والمجال الخاص).

ولا تنطوي السيادة الشعبية على أية مجموعة محددة من المؤسسات وقد غدت، في الحقبة الحديثة، البلاغة المسيطرة على مستوى سلطة الدولة بوجه عام. وهي ترتبط أيضا ذلك الارتباط الوثيق بتطور القومية الذي زامن تطورها تقريبا، خاصة تلك الجوانب التي تورط الأفراد في الكيان القومي الجمعي دون اعتبار للمؤسسات الوسيطة أو التمثيلية التي تضمن الحوكمة الذاتية. غير أن علم السياسة كان قد أبدى اهتمام كبيرا بتحديد تلك الأشكال من البنية التحتية الديمقراطية، خاصة أنماط المجتمع الديمقراطي، التي تعززها هذه الجوانب. ويبرز في مثل هذه البحوث تركيزها على الضمانات المؤسساتية التي تضمن الانتقال السلمية للسلطة وبقاء المجالات السياسية العلنية والمتنازع عليها، شأنها في ذلك شأن آليات الانتخابات وممارستها.

ويعتبر كثير من الباحثين أن التحول الديمقراطي واحد من محاور الحداثة الكبرى. ويشير التحول الديمقراطي إلى التحول إلى الديمقراطية من أشكال الحكم الأخرى، وكذلك إلى السيرورات الجارية ضمن المجتمع الديمقراطي والتي توسع المشاركة السياسية باتجاه ميادين جديدة وجماعات جديدة. وبهذا المعنى، فإن الحقوق الدستورية الأصلية الضيقة في معظم الديمقراطيات الأوربية قد حل محلها أشكال أوسع من حق الاقتراع، طالت من لا يملكون، والأقليات العرقية والإثنية، والنساء، والبالغين الشباب.

ولقد شكل التحول الديمقراطي منذ أواخر القرن الثامن عشر تلك السيرورة العالمية العميقة، فصّدر إلى البلدان الأخرى وارتبط بنماذج العولمة، والتنمية، وسيطرة القوى الغربية. ويرى بعضهم أن انهيار شيوعية المعسكر السوفييتي قد أزال آخر تحد كبير يقف في وجه تقدم التحول الديمقراطي العالمي، مع أن المحتوى الحقيقي لتلك السيرورة لا يزال محل كثير من الخلاف.