ابتداع القومية

ابتداع القومية

روبرت نلسون
ترجمة: كيفورك خاتون وانيس

قلة من الناس يدركون بأن القومية هي ظاهرة حديثة نسبياً. فالكثيرون يعتقدون بأن تاريخ القومية يعود إلى قرون أو ربما آلاف السنين. أنه أمر شائع أن تسمع شعوب معاصرة تربط بينها وبين شعوب قديمة، فالقوميون غالباً ما يعتبرون أنفسهم يسيرون على خطى الأبطال التاريخيين. كم مرة تم وصف الشعب الإيرلندي على أنه عرق قديم معتز بتقاليد تعود إلى آلاف السنين؟ وكم مرة تم رسم المعارك التاريخية والزعماء بخطوط قومية، رغم أن الناس في ذلك الوقت ما كانوا قد تعرفوا على مصطلحات كهذه أو أعاروها انتباهاً يُذكر. يعتقد الكثيرون بأن الأمم أزلية الوجود؛ مع ذلك هل عرّف الإيرلنديون عن أنفسهم دائماً على أنهم إيرلنديون؟ وإلا فكيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم؟

مع ذلك قلة هم من يدركون أن القومية هي ابتكار يعود إلى القرن التاسع عشر وبأنه قبل ذلك لم تكن هناك هوية قومية مشتركة تربط الناس ببعضها. فقد كان ولاء الناس، قبل الثورة الصناعية، لعوائلهم وقراهم ورب عملهم، أما مفهوم الأمة فقد كان محدوداً جداً. ولم تكن هناك ثقافة قومية أو تاريخ أو حتى لغة مشتركة. لكن إذا لم تكن الشعوب فرنسية، إيرلندية أو ألمانية....إلخ، ماذا كانت إذن؟

بالعودة إلى زمن العصور الوسطى، حيث كان أغلب الناس شبه منقطعين عن الآخرين الذين يبعدون عن قراهم. كان التنقل صعباً ونادراً، وفي عالم يسوده الأمية، كان انتقال الأخبار صعباً للغاية. ونتيجة لذلك كان تواصل الناس مع الآخرين نادراً، الأمر الذي جعل شعورهم بالارتباط ببعض ضعيفاً. كانت القرى بشكل كبير مكتفية ذاتياً، بالتالي لم تكن بحاجة إلى التواصل مع العالم الخارجي. تجلت هذه العزلة أيضاً في شكل لهجات وتنوع لغات حسب الأقاليم. لم تكن هناك لغة واحدة فرنسية أو ألمانية وحتى إنكليزية بل كانت هناك عشرات من اللهجات الثانوية والإقليمية ما يعني أنه حتى لو كان شعبان قد تواصلا باللغة نفسها، فلربما لم يكونوا قادرين على فهم بعضهما البعض .

حتى الأمم التي ننظر إليها اليوم على أنها تملك هوية موحدة وقوية تعود إلى قرون، مثل فرنسا، هي في الواقع حديثة التشكيل نسبياً. لم تكن هناك، في زمن الثورة الفرنسية، هوية فرنسية واحدة بل كان البلد مقسماً بين مجموعات إقليمية عديدة. في الواقع، حتى الفرنسية لم تكن هي لغة أكثرية الشعب الفرنسي. لم تكن هناك هوية فرنسية واحدة، بل كانت هناك بريتون، اوكيستان، آلساتيان، كورسيكان، باسك، بورغوندي.. إلخ. كل منها لها لغتها وهويتها وثقافتها الخاصة بها. لقد تطلب الأمر أكثر من قرن من الحكم المركزي القوي للتخلص من الإنتماءات المحلية وتشكيل هوية قومية واحدة. لم تكن القومية الفرنسية، حتى تاريخ الحرب العالمية الأولى، قد تبلورت ولم يكن الشعب الفرنسي كله يتكلم اللغة نفسها.

هذا كان الحال في مختلف أرجاء أوروبا. فقد كانت كل من إيطاليا وألمانيا، حتى القرن التاسع عشر، مجرد مناطق جغرافية وأفكار مجردة. حيث كانتا مقسمتين إلى مقاطعات ولهجات مستقلة عديدة. لذلك تطلب الأمر دولة قوية لتوحيدهم ومنحهم هوية مشتركة، مع ذلك لازالت هناك حتى الوقت الحاضر هويات إقليمية قوية في إيطاليا. كانت هناك موجة من الاهتمام الجديد بالعادات القديمة حيث حاول المثقفون "إحياء" تقاليد قديمة وخلال هذه العملية خلقت أحياناً واحدة جديدة. في الواقع تنتمي، بعض التقاليد القومية التي يُزعم بانها قديمة، إلى عصرنا هذا، أما القسم الآخر فقد تم تعديله وتحديثه.

لكن حتى لو لم يعتبروا أنفسهم إيرلندين أو إيطاليين، ...إلخ، لماذا لم يدرك الناس بأنهم يعيشون في إيرلندا أو إيطاليا...إلخ؟ في الحقيقة الأمر يكمن بأن إيرلندا وجدت كمفهوم جغرافي فقط. كانت هناك بعض أوجه التشابه الثقافي الواسع، لكن دون تضامن قومي. كان ولاء الناس هو لقبائلهم أوعشائرهم أو الإقطاعي وليس للأمة. كان أقصى ولائهم هو خدمة الحاكم في مقابل الأرض والحماية. لم تكن قومية الإقطاعي ذات قيمة ونادراً ما كانت تتطابق مع قومية رعاياها، كما أن ذلك لم يكن منتظراً من قبل أياً منهما، كان واضحاً تماماً بأن الاقطاعيين طبقة مختلفة تماماً عن الفلاحين. وهذا هو السبب في أن وسم خرائط القرون الوسطى باسماء مثل هنغاريا، بولندا، اسبانيا...إلخ هي عملية مضللة، إذ أن الشعوب نادراَ ما كان لها نفس هوية حكامها. غالباً ما تم تعريف حرب المائة عام بأنها حرب بين إنكلترا وفرنسا، لكن الكثير من اللوردات"الإنكيلز" كانوا يتحدثون الفرنسية بينما الكثير من اللوردات "الفرنسيين" لم يكونوا يتحدثونها.

لناخذ مثالاً معاصراً، لا تملك أغلب الشعوب في أوروبا هوية أوروبية متينة. إذا ولدت وعشت في أوروبا فأنت أوروبي بشكل طبيعي، لكن تواصل الشعوب الأوروبية مع بعضها قليل. على الرغم من وجود هوية جغرافية واضحة، إلا أنه لا وجود لقومية أوروبية. ليست هناك ثقافة أو تاريخ أو هوية مشتركة. فالتاريخ الأوروبي في معظمه هو اقتتال الأوروبيون فيما بينهم، تماماً كما هو الأمر بالنسبة للتاريخ الإيرلندي الذي هو اقتتال الإيرلنديين فيما بينهم. احتفال أحد الأمم بالنصر هو في الغالب حداد على هزيمة بالنسبة للأخرى. هناك محاولات لخلق هوية أوروبية، سواء من قبل الاتحاد الأوروبي أو اليمين المتطرف (ثمة رغبة في رسم حدود معركة بين تاريخ وثقافة "أوروبية" و"إسلامية") لكن دون تحقيق النجاح المأمول حتى الآن. ربما سيكون هناك، في القرون القادمة، هوية أوروبية مشتركة ويخلق القوميون الأوروبيين تاريخاً يعود إلى قرون. تماماً كما هو الأمر صعب اليوم تصور أن الأيرلنديين كانوا يعتبرون أنفسهم كل شيء عدا كونهم إيرلنديين، كذلك ربما سيندهش الأوروبيون مستقبلاً كيف كنا نعتبر أنفسنا أي شيء عدا كوننا أوروبيين؟

مثال آخر على ذلك هو هوية العرق الأبيض، أو بالأحرى عدم وجودها. على الرغم من أنني أبيض، لكن هذا لا قيمة له لدي. لا أشعر بالتضامن مع الناس البيض الآخرين اعتماداً على لون البشرة المشترك. لا أؤمن بأي تاريخ مشترك للبيض أو ثقافة للبيض. القومية البيضاء هي جماعة هامشية بغيضة لا تملك أي دعم يذكر وهي مثال على الكيفية التي لا يمكن بها افتراض القومية أو اعتبارها أمراً مفروغاً منه. تماماً كالأساطير القديمة في الحروب الإقليمية مثل ملحمة Cattle Raid of Cooley التي لم يتم اعتبارها حرب أهلية ايرلندية،بل حرباً بين مقاطعتين مميزتين من ايرلندا (Connaught and Ulster)، هكذا أيضاً تم اعتبار الحروب العالمية حروباً بين أمم محددة وليست حروباً أوروبية أو حرباً أهلية بين البيض.

إذن من أين أتت القومية؟ ينظرمعظم المؤرخين إلى الأمم كـ "مجتمعات متخيلة" وأن العديد من تقاليدها تم "إبتداعها". وهي ليست رؤية إزدرائية المنهج ولاتعني أن القومية مزيفة أو اصطناعية. بل تعني بان القومية هي بناء اجتماعي مثل معظم المعتقدات الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية. دعوني أوضح.

أولاً ما هو المجتمع المتخيل؟ إنها طريقة لوصف الرابط بين سكان الأمة ذاتها، حتى لو لم يلتقوا بتاتاً. مثال على ذلك، كأيرلندي أشعر برابط مع كل الايرلنديين رغم أنني لن أقابل 99% منهم في حياتي. فنحن لدينا مفهوم مشترك عن تاريخنا (نقييم الأحداث والناس بنفس الأهمية) وهويتنا (فكرة الايرلندية حتى لو لم نستطع تعريفها). على الرغم من وجود اختلافات هائلة بين الشعب الايرلندي فيما يتعلق بالعمر والمهنة والمعتقد والسياسات والهويات والمصالح والموقع ونمط الحياة....إلخ إلا أننا مازلنا نملك رباط مشترك قائم على الفكرة المشتركة وهي أننا إيرلنديون. حتى عندما اقابل غريب هو على النقيض مني في كل شيء، إذا كان إيرلندياً، فلابد أننا نملك شيئاً ما يجمعنا. نحن جميعاً عناصر في هذا المجتمع المتخيل.

لايمتد هذا الرباط بين الأحياء فقط ، بل يصل إلى الماضي أيضاً. يشكل الناس رابطة مع أبطال ماتوا منذ أمد بعيد قبل مجيئنا إلى هذا العالم. هناك إيرلنديون يستحدمون مصطلح "نحن" عندما يصفون أفعال المتمردين في حرب الاستقلال رغم أنها وقعت قبل قرن من الزمن. على الرغم من أنهم لم يكونوا أحياء عندما وقعت، فأن بعض الناس يشعرون برابط مع ما حدث. هذا صحيح أيضاً بالنسبة للأشرار، فعلى سبيل المثال لازال بعض القوميين الايرلنديين يتهمون الشعب الانكليزي بجرائم أوليفر كروميل والمجاعة ويطالبون بالاعتذار.

أين تشكلت فكرة المجتمع هذه؟ إنها ليست فكرة قديمة امتلكها الناس دائماً، بل هي فكرة معاصرة وجدت في فترة الثورة الصناعية تقريباً. فقد وفرت الصحافة المطبوعة للناس عملية التواصل والتعرف على عالم أبعد من قراهم، فنثرت بذلك بذور الهوية المشتركة. كانت هناك موجة إنتعاش قومية كلما ازداد الاهتمام بالتقاليد. حيث تم تدوين قصص قديمة ووصلت إلى جماهير جديدة. كما تم على الأغلب تغيير هذه القصص لتناسب الأوضاع المعاصرة وتتوافق مع القيم المعاصرة. كما تم خلق رموز جديدة كالعَلم والنشيد الوطني لتوحيد الناس. وتشارك الناس في خبرات مستندة على قراءة الأخبار والقصص نفسها.

أدى تزايد النشاط التجاري والتطورات في وسائل النقل (مثل الخطوط الحديدية) إلى وصل مناطق جديدة مع بعضها البعض. كما مكّنت الناس من التواصل مع شعوب غريبة عنها مما سلّط الضوء على اختلافات قومية. كما أدى نمو التصنيع إلى تعطيل حياة القرية التقليدية بسبب مغادرة الناس للقرية. هكذا لم يعد للهويات القروية أي جدوى، كيف إذن استطاع الناس النظر إلى أنفسهم؟ بانتهاء الاقطاع، لم يعد لدى الناس العاديين سيد محلي لكي يقدموا له الطاعة، فالأمة أخذت مكانه. كما تلاشت العشيرة وحلت محلها أسرة متمثلة بالأمة، التي أصبحت تفي بالكثير من الاحتياجات ذاتها مثل الحماية والتواصل الاجتماعي والتعاضد.

كما لعبت الدولة دوراً هاماً. حيث أدى تصاعد التعليم العام إلى انخفاض نسبة الأمية وتوحيد اللغة القومية الأمر الذي مكّن السكان المتعلمين من التواصل. كان تعزيز الكتابة بلغة واحدة في التعليم العام حاسماً دون ان يكون ذلك دائماً عاملاً مقصوداً. أدى ذلك إلى خلق أساطير قومية إذ تم تأميم الأساطير والقصص المحلية. لم يحدث ذلك بشكل متعمد دائماً من قبل الدولة، هكذا بينما كان لإحياء اللغة الغيلية جذور في نمو الإعلام ومحو الأمية الشاملين، فان هذه لم تكن نية الإمبراطورية البريطانية. وبتحول أوروبا من ملكيات إلى جمهوريات، لم يعد النسب أو الحقوق الإلهية هي مصدر الشرعية، بل دور الدولة كممثلة للأمة.

كذلك لعبت الحروب دوراً حاسماً في تشكيل الروابط القومية، وذلك لأنها تطلبت اتحاد الناس والموارد. في حقبة الحرب الشاملة، كان على الأمة كلها أن تتعاضد من أجل القتال. أدى تمجيد الكفاح المشترك إلى خلق تحالف من مجموعات لم تكن لديها في السابق سوى بعض المشتركات. لقد خلقت أبطال قوميين وأحداث في المعركة ضد عدو مشترك. فإذا كانت الانتصارات تلهم الأمة، فأن الهزائم والمذابح تفعل الشيء نفسه ، وكل أمة لديها شهداؤها المقدسين. دور العدو المشترك هو أيضاً حاسم بمقدا ر ما تحدد القومية من هو ليس جزءاً من الأمة ومع من يقف .

هكذا بينما يعتقد الكثيرون بأن الأمم لها تاريخ مديد وبأن معظم التاريخ يمكن تصنيفه على أنه أمة تقاتل أخرى، فأن القومية في الحقيقة هي ابتكار حديث مثير للاندهاش . كثير من التقاليد التي يزعم أنها تعود إلى 500 أو 1000 سنة هي في الحقيقة تعود فقط إلى القرن التاسع عشر عندما تم إما تحديثها أو خلقها. لا أحد منها يلغي القومية أو يعني أنها "مزيفة". إن الطريقة التي ننظر فيها إلى أنفسنا ومجتمعنا هي متغيرة دائماً، والقومية هي واحدة من التغيرات الرئيسية. وهي ليست سوى تحذير من رؤية الماضي بعدسات معاصرة.


تعليق المُترجم
ماذا لو ادّعت أحزاب قومية في أمريكا اللاتينية بأن دولها تنتمي إلى قومية واحدة هي الإسبانية كونها جميعاً(عدا البرازيل) تتحدث الإسبانية وتُدين بالكاثوليكية؟ ماذا لو سمت دولة من دولها نفسها، على سبيل المثال، جمهورية كوبا الإسبانية أو الجمهورية الإسبانية الأرجنتينية؟

أليست مقومات الأمة المتخيلة في منطقتنا هي نفسها متوفرة في أمريكا اللاتينية ؟ مع ذلك لا نراهم ينهكون أنفسهم في الركض وراءه.

ألم تتحول تجربة تشكيل هذه الأمة، عندما قامت بعض الأحزاب بتطبيقه في بعض الدول، إلى كوارث ليس فقط على الذين ينتمون إلى قومية أخرى ويعيشون في هذه الدولة أو تلك، بل أيضاً على كل من لم يقتنع بها حتى لو كان من "القوم" الذي يتحدثون باسمه ؟

ألم تنشأ فكرة القومية العربية كرد فعل على الاحتلال العثماني؟ ما الفائدة من التمسك بفكرة فقدت أسباب وجودها؟

أخيراً ألا تتعارض مفاهيم الديمقراطية ومبادئ المواطنة والانتماء إلى جغرافيا واقعية، مع الانتساب إلى أمة تاريخية متخيلة ضررها على الوطن والمواطن أكثر من فائدتها؟

الرابط الأصلي للمادة: The Invention of Nationalism – Whistling In The Wind