دبلوماسية العصابة

دبلوماسية العصابة

الكاتب: كيفورك خاتون وانيس

بعد عقدين على انتهاء الحرب العظمى (لم تكن حينها تسمى الحرب العالمية الأولى) بدأ وجه هتلر الحقيقي بالانكشاف بشكل تدريجي وذلك عندما باشر مشروعه التوسعي الإمبراطوري في شتاء 1938 باحتلال النمسا بنوع من دبلوماسية العصابة، إذ أنه أمر باستدعاء المستشار النمساوي إلى منتجعه في ميونخ وهناك عامله بطريقة مذلة فارضاً عليه شروطه (أولها وليس أخرها تعيين ثلاثة وزراء في الحكومة النمساوية من الحزب النازي النمساوي المؤيد لهتلر) وإلا فإنه سيأمر الجيش الألماني بالزحف إلى فيينا!

لم يكن من خيار أمام الحكومة النمساوية (وهي المطلعة على تجبر النازية وخنوع القوى الأخرى) إلا الخضوع لدبلوماسية العصابة التي لم تتوقف عند هذا الحد بل نفذت أجندته الخفية باحتلال النمسا وضمها إلى الرايخ الثالث كأول ضحية للنازية تحت مسمع ومرأى المجتمع الدولي!

وعندما تأكد هتلر من عجز المجتمع الدولي عن الوقوف في وجه دبلوماسيته هذه، اتجه بعد عدة أشهر شرقاً، إلى تشكوسلوفاكيا تحديداً، فأعلن نيته الدخول إلى إقليم السوديت لاند بذريعة أن سكانها، الذين ينحدرون من أصول ألمانية، يتعرضون للاضطهاد من قبل الحكومة التشكوسلوفاكية!

حال وصول رائحة هذه الطبخة إلى براغ استنجدت الحكومة هناك بالقوى الأوروبية العظمى (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا)، وعلى الفور عُقد مؤتمر ميونيخ الشهير (وحينها أيضاً تصرف هتلر بعنجهية رافضاً حضور الوفد التشكوسلوفاكي جلسات المؤتمر رغم قدومهم من براغ إلى ميونيخ لحل هذه المشكلة) الذي بموجبه منحت هذه القوى، تجنباً لحرب عالمية جديدة، هتلر حق التوغل في إقليم السوديت لاند وضمها.

لكن هذه المرة أيضاً لم يكتف هتلر بهذا القدر إذ أنه لم يستطع إخفاء مطامعه التوسعية في ضم تشكوسلوفاكيا، فبدأ يثير الاضطرابات فيها من خلال أنصاره ويزعزع استقرارها من خلال دعم القوميين السلوفاك وإقناعهم بإعلان الانفصال، فما كان من الرئيس التشكوسلوفاكي إلا طلب مقابلة هتلر لتجنب التصعيد العسكري، وهذه المرة أيضاً وكعادته تصرف هتلر معه على طريقة دبلوماسية العصابة إذ هدده بقصف براغ وتدميرها واجتياح تشكوسلوفاكيا في حال لم يرضخ لإملاءات هتلر والتوقيع على بيان يطلب فيه دخول القوات الألمانية "لاستعادة الأمن والانضباط" في تشكوسلوفاكيا!

ألا تتشابه إلى حد ما، الطريقة التي تصرف بها بوتين مع أوكرانيا وتعامله مع المجتمع الدولي (على سبيل المثال لقاءاته مع قادة ألمانيا وفرنسا)، قبل بضعة سنوات حين ضم القرم، وما يحاول القيام به في شرق أوكرانيا اليوم، مع دبلوماسية العصابة التي اتبعها هتلر في ضمه النمسا وتشكوسلوفاكيا 1938؟

لكن الأمر الأهم الذي يمكن استنتاجه من خلال هاتين التجربتين المريرتين وغيرهما هو أن العيش في دولة الحزب أو الزعيم الأوحد الأيديولوجية، هي كذبة كبرى مهما بدت شعاراتها براقة، وهيبتها متوهجة. وأن نهايتها مدمرة مهما طال الزمن.

وأن بلاء هذه الدولة لا يصيب فقط أبنائها وبنيتها التحتية حين تكون هذه الدولة دولة عظمى بل يتعداها إلى دول الجوار، والعالم بأسره أحياناً! والتاريخ الحديث والقديم يزخر بالكثير من الشواهد على الحياة البائسة التي عاشتها شعوب هذه الدول والنهايات المأساوية التي وصلت إليها.

ثمة تساؤل لا يقل أهمية عن النتيجة ألا وهو كيف يمكن تجنب وقوع الدولة تحت سيطرة كهذه (إذ أن التاريخ الحديث يذكر العديد من هذه التجارب التي تمكن فيها هؤلاء من الوصول إلى السلطة بطريقة شرعية؛ انتخاباً أو بثورة شعبية !)، بعبارة أخرى، ما هي الظروف التي تتيح لهؤلاء فرصة الوصول إلى السلطة؟

أعتقد أن تزامن لحظة وصول شعب أي دولة إلى مرحلة اليأس المطلق من الحالة التي يعيشها، مع بروز أيديولوجيا معينة تبدو كأنها هي المخلص من خلال شعارات طنانة تخاطب المشاعر أكثر من محاورة العقول هي المفصل في دخول أي بلد في نفق مظلم لا تبدو نهايته لا قريبة ولا سعيدة!

هناك أيضاً مسألة كامنة وخطيرة تجدر الإشارة إليها هنا، وهي أن السلطة في هذه الدول تتمكن من كسب الشعبية في البداية من خلال إجراء إصلاحات اقتصادية لكن على حساب الحريات، وهي خديعة كبرى لم تعرها شعوب كثيرة الاهتمام، الأمر الذي تصحو عليه متأخراً فتردد بعد فوات الآوان مقولة المؤرخ الألماني يواخيم فيست:
كيف لأمة عظيمة أنجبت بيتهوفن وشيلر وغوته وأمثالهم أن تكون قد انساقت وراء ثلة من المتهورين والمهووسين أمثال هتلر وهملر وغوبلز!!