لماذا لستُ شيوعياً؟

لماذا لستُ شيوعياً؟

الفيلسوف بيرتراند راسل
ترجمة: كيفورك خاتون وانيس

عند تناول أي عقيدة سياسية ثمة سؤالان يتم طرحهما: هل مبادئها النظرية صحيحة؟ هل من المرجح أن يؤدي تطبيقها إلى زيادة في سعادة الإنسان؟ بالنسبة لي، أعتقد أن المبادئ النظرية للشيوعية مغلوطة، وأن تطبيقها العملي يزيد من بؤس البشر بشكل يفوق التصوّر.

معظم المذاهب النظرية للشيوعية مستمدة من ماركس. اعتراضاتي على ماركس من نوعين: الأول، أنه كان مشوش الذهن. والآخر، أن تفكيره كان مستوحى بشكل شبه كامل من الكراهية.

إن فائض القيمة، الذي من المفترض أنه يُظهر استغلال الشغيلة ضمن الرأسمالية، قد وصل إلى: أولاً القبول خلسةً بنظرية مالتوس عن التكاثر السكاني، الذي يرفضه ماركس وأتباعه علانية، ثانياً تطبيق نظرية ريكاردو على قيمة الأجور، لكن ليس على أسعار السلع المصنعة. إنه راضٍ تمامًا عن النتيجة، ليس لأنها متوافقة مع الحقائق أو لأنها متماسكة منطقيًا، ولكن لأنها مدروسة لإثارة الغضب لدى الشغيلة. مذهب ماركس القائل بأن جميع الأحداث التاريخية كانت مدفوعة بالصراعات الطبقية هو تعميم متسرع وغير صحيح لتاريخ العالم من خلال بعض السمات البارزة في إنجلترا وفرنسا قبل مائة عام . إن اعتقاده بوجود قوة كونية تسمى المادية الجدلية تحكم التاريخ البشري بشكل مستقل عن الإرادة البشرية، هو مجرد أسطورة. ومع ذلك، لم تكن أخطائه النظرية ذات أهمية كبيرة لولا حقيقة أنه، مثل ترتليان وكارليل، رغبَ بشكل رئيسي في رؤية أعداءه يُعاقبون، ولم يكن يهتم كثيراً بما حدث لأصدقائه في هذه العملية.

كانت عقيدة ماركس سيئة بما فيه الكفاية، لكن التطورات التي مرت بها في عهد لينين وستالين جعلتها أسوأ بكثير. لقد كتب ودرّسَ ماركس بأنه ستكون هناك فترة انتقالية ثورية بعد انتصار البروليتاريا في حرب أهلية، وأن البروليتاريا خلال هذه الفترة، وفقاً للممارسة المعتادة بعد الحرب الأهلية، ستحرم أعدائها المهزومين من السلطة السياسية. كان من المقرر أن تكون هذه الفترة هي فترة دكتاتورية البروليتاريا. لا ينبغي أن ننسى أنه في رؤية ماركس التنبؤية، انتصار البروليتاريا يأتي بعد أن تكون قد نمت وأصبحت الغالبية العظمى من السكان. ولذلك فإن دكتاتورية البروليتاريا كما تصوّرها ماركس لم تكن في الأساس مناهضة للديمقراطية. لكن في روسيا عام 1917، كانت البروليتاريا تشكل نسبة صغيرة من السكان، وكانت الأغلبية العظمى من الفلاحين. صدر مرسوم بأن الحزب البلشفي كان الجزء الواعي لطبقة البروليتاريا، وأن لجنة صغيرة من قادته كانت الجزء الواعي من الحزب البلشفي. وهكذا أصبحت دكتاتورية البروليتاريا دكتاتورية لجنة صغيرة، وفي النهاية دكتاتورية رجل واحد - ستالين. بصفته البروليتاري الوحيد الواعي طبقياً، حكم ستالين على ملايين الفلاحين بالموت جوعاً وحكم على ملايين آخرين بالسخرة في معسكرات الاعتقال. حتى أنه ذهب إلى أبعد من ذلك ليقرر أن قوانين الوراثة أصبحت من الآن فصاعدًا مختلفة عما كانت عليه من قبل، وأن الأصول الوراثية يجب أن تطيع المراسيم السوفيتية وليس ذلك الكاهن الرجعي مندل!

أنا في حيرة تامة، إذ أنني لا استطيع فهم كيف يمكن لبعض الأشخاص الذين يتمتعون بالإنسانية والذكاء على حد سواء، العثور على شيء يستحق الإعجاب به في معسكر العبيد الضخم الذي أقامه ستالين.

لطالما اختلفتُ مع ماركس. فأول انتقاد معادي من قبلي نُشر في عام 1896. لكن اعتراضاتي على الشيوعية الحديثة أعمق من اعتراضاتي على ماركس. إن التخلي عن الديمقراطية هو ما أجده كارثياً بشكل خاص. فاعتماد الأقلية في سلطاتها على أنشطة الشرطة السرية، يجعلها قاسية وقمعية وظلامية حتماً.

لقد تم الاعتراف بشكل عام بمخاطر السلطة غير المسؤولة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لكن أولئك الذين انبهروا بالنجاح الظاهري للاتحاد السوفييتي نسوا كل الدروس المؤلمة خلال أيام الملكية المطلقة، عادوا إلى أسوأ ما كان في العصور الوسطى تحت وهم غريب الأطوار بأنهم كانوا في طليعة التقدم.

هناك مؤشرات على أن النظام الروسي سيصبح مع مرور الوقت أكثر ليبرالية. ولكنه، على الرغم من كونه ممكناً ، بعيد كل البعد عن اليقين. في غضون ذلك، يجب على كل أولئك الذين لا يقدرون فقط الفن والعلم بل أيضاً القوت اليومي والتحرر من الخوف بأن كلمة مهملة تخرج من فم أطفالهم أمام معلم المدرسة قد تحكم عليهم بالنفي للعمل بالسخرة في سيبيريا المتوحشة، فعل ما في وسعهم للحفاظ على أسلوب حياة أقل ذلاً وأكثر ازدهاراً في بلدانهم.

إن أولئك الذين اضطهدتهم شرور الشيوعية، قد دُفعوا إلى استنتاج مفاده أن الطريقة الوحيدة الفعالة لمحاربة هذه الشرور هي عن طريق حرب عالمية. أعتقد أن هذا خطأ. ربما كانت مثل هذه السياسة في وقت من الأوقات ممكنة، ولكن الآن أصبحت الحرب مروّعة للغاية وأصبحت الشيوعية قوية جداً لدرجة أنه لا يمكن لأحد أن يعلم ما سيتبقى بعد الحرب العالمية، وأن أي شيء قد يتبقى سيكون سيئاً على الأقل بسوء الشيوعية اليوم. لا يعتمد هذا التوقع الجهة المنتصرة، هذا إذا كان هناك منتصر، بل يعتمد فقط على الآثار الحتمية للدمار الشامل عن طريق قنابل الهيدروجين والكوبالت وربما الطاعون الذي ينتشر ببراعة. طريقة محاربة الشيوعية ليست الحرب. ما نحتاجه بالإضافة إلى مثل هذه الأسلحة التي من شأنها ردع الشيوعيين عن مهاجمة الغرب، هو تقليص أسباب الاستياء في الأجزاء الأقل ازدهاراً من العالم غير الشيوعي. في معظم بلدان آسيا، هناك فقر مدقع يجب على الغرب التخفيف منه قدر المستطاع. هناك أيضاً مرارة كبيرة سببتها قرون من الهيمنة الأوروبية الوقحة في آسيا. يجب معالجة مع هذا بمزيج من البراعة المتأنية والبيانات الحاسمة التي التي تنبذ آثارها، كهيمنة العرق الأبيض المتبقية في آسيا.

الشيوعية عقيدة ولدت من الفقر والكراهية والصراع. لا يمكن وقف انتشارها إلا من خلال تقليص مساحة الفقر والكراهية.
______________________________
توضيح من المترجم
مع تقديم ترجمة عن موضوع كبير كهذا ولفيلسوف بحجم راسل وتاريخه النضالي أجدني مضطراً إلى توضيح بعض النقاط أهمها:

كانت مواقف الكثير من اليسار الماركسي (أفراداً وتنظيمات ) المحيرة وغير المفهومة من الغزو الروسي لأوكرانيا( ليس فقط اليسار في بلدان المشرق بل في أوروبا أيضاً، ففي بلجيكا على سبيل المثال لا الحصر، حزب العمل الماركسي في بلجيكا هو الوحيد الذي وقف ضد تحميل روسيا مسؤولية الحرب، ولا يعتبرها غزواً بالإضافة إلى وقوفه ضد فرض أي عقوبات على روسيا!!!) هي الدافع الرئيسي وراء ترجمة هذا المقال.

أعتقد أن ما نحتاجه نحن أبناء الشرق على وجه الخصوص هو الابتعاد عن عقلية التأليه، والتخلص من عقلية القطيع؛ فتبني أي نظرية يجب أن يسبقها الاقتناع وهذا بدوره يتطلب قراءة نصوصها بعين نقدية، والحكم عليها من خلال نتائجها على الإنسان الذي من المفترض أن يكون الغاية الأولى والأخيرة لأي عقيدة. أما الإيمان الروحي فهو أمر آخر وهو خيار شخصي ليس من حق أي شخص مجادلة صاحبه طالما لم يحاول فرضه على المجتمع والدولة.

فكرة عن الكاتب: كان البروفيسور برتراند راسل ناشطاً بارزاً في مناهضة الحرب وأحد أنصار التجارة الحرة ومناهضة الإمبريالية. سجن بسبب نشاطه الداعي للسلام خلال الحرب العالمية الأولى، وخسر جراء ذلك منصبه كأستاذ في جامعة كامبردج. قام بحملات ضد أدولف هتلر وانتقد الشمولية الستالينية وهاجم تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، حيث عمل على تشكيل المحكمة دولية (راسل- سارتر) مع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، لمحاكمة الولايات المتحدة على جرائمها في فيتنام، كما كان من أنصار نزع الأسلحة النووية، فوقع مع ألبرت أينشتاين بيانًا ضدها عرضه للسجن في عام 1961
بالمناسبة، كان راسل من أنصار الاشتراكية في شبابه، وكتب كتاب بعنوان "البلشفية، النظرية والتطبيق" بعد الزيارة التي قام بها ضمن وفد حزب العمال البريطاني إلى الاتحاد السوفيتي 1920، حيث تجوّل الوفد لمدة شهر كامل في سان بطرسبورغ وموسكو والكثير من الريف الروسي وقابل البلاشفة، وجلس راسل مع لينين شخصياً! وبعد حقبة ستالين وبالتحديد في 1956 كتب هذا المقال.