أوروبا من دون أمريكا!
كيفورك خاتون وانيس
ثمة مسألتان هامتان يتم تناولهم من قبل الرأي العام عند اندلاع أي حرب أو غزو كما هو الحال اليوم في أوكرانيا، ألا وهما غياب موقف مؤثر من الاتحاد الأوروبي، وعلاقة أوروبا الغربية (الاتحاد حالياً) بالولايات المتحدة الأميركية.
فيتم الحكم على الأولى بأنها فاشلة، وعلى الثانية على أنها علاقة هيمنة، أو بالأحرى حالة تبعية مطلقة. فهل الاتحاد الأوروبي حقاً مؤسسة فاشلة، وهل هو فعلاً تابع بشكل مطلق للولايات المتحدة؟
لتقديم إجابة موضوعية عن هاتين المسألتين لابد الاطلاع على هوية هذا الكيان المسمى بالاتحاد الأوروبي، وبعض ملامح العلاقة التي تربطه بالولايات المتحدة.
بعد سلسلة طويلة ومريرة من حروب داخلية في أوروبا، بدأ العديد من مفكري وأدباء القرن التاسع عشر بطرح فكرة توحيد أوروبا باستخدام مفهوم الولايات المتحدة الأوروبية، كان من أبرزهم الفيلسوف الإيطالي جوزيبي مازيني، والأديب الفرنسي فكتور هوغو، والسياسي الإيطالي غاريبالدي، والفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل، والفيلسوف الروسي ميخائل بانكونين، والكاتب البولندي زيمانوفسكي وآخرون. لكن للأسف لم يُكتب لأمنياتهم النجاح حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى.
في مرحلة ما بين الحربين العالميتين عادت فكرة توحيد أوروبا لكن هذه المرة وفقاً لرؤى الأحزاب السياسية التي تكاثرت بسرعة في تلك الفترة، لكن أخطرها كانت فكرة المفوّض (الوزير) السوفيتي تروتسكي 1924 الذي رفع شعار "من أجل الولايات المتحدة السوفيتية الأوروبية" أي توحيد أوروبا تحت المظلة الشيوعية!!!
نعم كانت خطيرة للغاية فيما لو كتُب لها النجاح وكانت ستكون لعنة على أوروبا، كيف لا وقد رأينا ما حل بأوروبا الشرقية التي "وحّدها" أو بالأحرى احتلها غريمه ستالين ووضعها في الثلاجة الشيوعية لمدة نصف قرن!!
بعد خروج أوروبا مدمرة من الحرب العالمية الثانية عادت الفكرة مرة أخرى ولكن هذه المرة من خلال رجال دولة واقتصاد وليس من خلال أدباء وفلاسفة أو وفقاً لإيديولوجيا معينة؛ فكانت البداية بأنشاء جمعية الفولاذ والفحم بين 6 دول ثم توسعت تدريجياً عدداً مهماً حتى وصلت إلى الشكل الحالي.
إذن الاتحاد الأوروبي ليس وحدة إيديولوجية على الطريقة السوفيتية أو حكومة اتحادية بدستور موحد وسياسة خارجية موحدة بل هو اتحاد اقتصادي - تجاري بالدرجة الأولى. صحيح أنه يتكون من 3 هيئات سياسية: برلمان أوروبي، مفوضية أوروبية، مجلس رئاسي أوروبي إلا أن عمله الأساسي هو تعزيز السلام وقيمه ورفاهية مواطنيه وتوفير الحرية والأمن والعدالة وإنشاء سوق داخلي وتحقيق التنمية المستدامة على أساس النمو الاقتصادي المتوازن واستقرار الأسعار واقتصاد سوق تنافسي وحماية البيئة وتحسينها وتعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي وتعزيز العدالة الاجتماعية وتعزيز التماسك الاقتصادي والاجتماعي والإقليمي والتضامن بين دول الاتحاد الأوروبي.....إلخ
هكذا يتضح بأن الاتحاد الأوروبي ليس قوة سياسية عظمى أو إمبراطورية تهدف إلى توسيع نفوذها وفرض هيمنتها على الدول الأخرى بل على العكس التعاون معها ودعمها!
وعليه، فإن النظر إلى هذا الاتحاد كقوة سياسية أو عسكرية وازنة في الصراعات الدولية، وتوقع دور حاسم في حل الصراعات لا يستقيم مع المهام المنوطة به.
إن مناقشة مقولة أن أمريكا تهمين على أوروبا الغربية، بحاجة إلى مراجعة سريعة لظروف نشوء العلاقة بين أوروبا الغربية و أمريكا وعرض بعض ملامح هذه العلاقة، فذلك أجدى من دوغما المصطلحات والأحكام المطلقة.
كلنا نعلم بأن تاريخ العلاقة بين أوروبا الغربية وأمريكا يعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وانهزام النازية ووصول القوى المنتصرة إلى برلين وتقاسم السيطرة عليها. وهنا لا بد من توضيح مسألة هامة في هذا السياق ألا وهي أن النهج النازي الذي انهك أوروبا ودمرها هو المسبب في تدخّل أمريكا عسكرياً في القارة الأوروبية، أما استمرار تواجدها فهو النهج الشيوعي لروسيا السوفيتي الذي كان يسعى إلى احتلال أوروبا كلها وتزعمها!
كما يجدر الذكر هنا بأن علاقة أوروبا الشرقية بالاتحاد السوفيتي، وعلاقة أوروبا الغربية بأمريكا لم تكن خياراً أي منهما على الإطلاق وإنما فرضتها مرحلة ما بعد الحرب. مع ذلك كان مصير دول أوروبا الغربية التي دخلت في البداية تحت الحماية الأمريكية- الفرنسية- البريطانية (لاحقاً الأمريكية فقط)، أفضل بكثير من مصير دول أوروبا الشرقية التي دخلت تحت الوصاية الشيوعية السوفيتية المطلقة.
أولاً وقبل كل شيء، لا يجرؤ أحد على القول بأن هذه العلاقة متكافئة، (وهو أمر بديهي فالأمريكان حموا أوروبا الغربية من المد الشيوعي الذي لم يكن أرحم من النازية، هذا عدا عن مشاركتها في تحرير أوروبا من النازية) لكن مع ذلك هي ليست علاقة هيمنة أو تبعية مطلقة كما هو الحال في العلاقة بين الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية!
إن العلاقة بينهما بدأت بتقديم الحماية (حلف الناتو) وإعادة البناء (مشروع مارشال) في مقابل المجاراة في المواقف وفتح أسواقها للاستثمارات الأمريكية، وهي علاقة كانت مفيدة للطرفين لكن بشكل أكبر بالنسبة لأوروبا الغربية.
لكن مع ذلك لم توافق أوروبا الغربية على سياسات أمريكا الخارجية دائماً، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يكن الغرب الأوروبي مؤيداً أو صامتاً تجاه حرب أمريكا في فيتنام، كما أن بعض دول أوروبا الغربية، فرنسا وألمانيا وبلجيكا (رغم كونهم أعضاء في حلف الناتو!) عارضوا غزو أمريكا للعراق في 2003! هذا عدا عن الموقف الشعبي الأوروبي العام الذي خرج بمئات الألوف في ساحات وشوارع أوروبا.
أما على صعيد الداخلي فأن أمريكا لم تتدخل أبداً في الشؤون الداخلية لدول أوروبا الغربية؛ فهي لم تتدخل يوماً في أي انتخابات أو تشكيل حكومات أو برلمانات.....الخ (طبعاً على عكس علاقة الاتحاد السوفييتي مع دول أوروبا الشرقية التي كانت سياساتها الداخلية والخارجية تُرسم في موسكو).
والأهم من هذا وذاك لم تفرض الولايات المتحدة على أوروبا الغربية نمطها الاقتصادي الرأسمالي، فقد اختارت هذه الدول الاقتصاد المختلط الذي يجمع بين النهج الاشتراكي والرأسمالي للسوق الاقتصادي - من خلال السماح للحكومة بتوفير المشاريع في مجالات مثل الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي مع السماح في الوقت نفسه للمنتجين أو الشركات الخاصة بالمشاركة في الإنتاج والمنافسة في السوق. (فهي ليست دول رأسمالية كما يعتقد الكثير من المؤدلجين الذين لا يوجد في قاموسهم غير التقسيم العقائدي الجامد؛ رأسمالي أو اشتراكي!!).
لم تقم أمريكا يوماً بقمع أي مظاهرة أو احتجاج في أوروبا الغربية حتى لو كان موجهاً ضدها (أحداث الحركات الطلابية 1968 خير شاهد على ذلك). يقابله قمع لا مثيل له من طرف الاتحاد السوفيتي لكل حركة اصلاح أو مظاهرة (كلنا يذكر كيف أمرت موسكو دبابات حلف وارسو باحتياج تشكوسلوفاكيا من أربعة محاور لإخماد ربيع براغ 1968).
كذلك، لم تقم أمريكا يوماً بإسكات أي صحيفة أو رأي حر مهما بلغ نقدها للإدارة الأميركية والدليل وجود الكثير من الأحزاب اليسارية في أوروبا الغربية التي لا تفوت فرصة لشتم أمريكا وانتقاد علاقة حكوماتهم مع الأمريكان ومع ذلك لم يعترضهم أحد.
أما الحقيقة التي أكدتها التجارب فهي أنه لا يمكن للدولة الشمولية مهما امتلكت من القوة العسكرية والموارد الاقتصادية أن تكون نداً للولايات المتحدة لسبب بسيط وأساسي: الولايات المتحدة دولة مؤسسات شئنا أم أبينا، ومجابهة سياساتها يجب أن تتم من خلال دولة مؤسسات وليس من خلال دولة إيديولوجية تقمع شعبها وتكمم أنفاسه بحجة محاربة الإمبريالية!