التحديات الحاسمة للحكومة العراقية الوليدة
كارزان كاوسين
التحديات الحاسمة للحكومة العراقية الوليدة
سبقت ولادة الحكومة العراقية الراهنة، بوادر حربٍ أهلية وشيكة. فانبثقت متأثرة بحدة الصراعات غير المنتهية بين القوى العراقية. في وقتٍ بدأت فيه التحضيرات لتنظيم الذكرى السنوية الثالثة للمظاهرات التي تسمى بـ " التشرينيين" نسبة إلى المظاهرات التي انطلق في تشرين الأول 2019، بساحة التحرير في بغداد. وذلك للتأكيد على المطالب الاصلاحية التي ما زالت دون استجابة مرضية.
غير أن مظاهرات هذه السنة أتت مبكرة. حيث بدأت في شهر آب أغسطس المنصرم، في ساحة التحرير ذاتها ببغداد. مانحة المزيد من الزخم للمطالب الإصلاحية التي ينادي بها المتظاهرون في الشارع العراقي، والتي حُظيت هذه المرة بدعم واضح من قبل التيار الصدري، والذي خلق بذلك، ظرفا سياسيا مختلف عن حال المظاهرات في 2019. وبات الضغط على القوى العراقية الحاكمة أكثر ثقلا.
من بين هذه الفروقات : هو قيام المتظاهرون باقتحام المؤسسات الرئيسية للسلطة، كمبنى مجلس القضاء الأعلى، ومبنى البرلمان العراقي. إلى جانب انفتاح واحتواء المظاهرات للسخط الشعبي العام، وبالتالي انفتاحه على شرائح متنوعة من الشارع العراقي بمختلف مشاربه السياسية و المذهبية.
وهكذا تجلت أشكال جديدة من التظاهر في الشارع العراقي، و باتت بمثابة الإمكانية المجتمعية لتحولها إلى انتفاضة جديدة ضد الحكومة العراقي الراهنة، وذلك في حل تخلفت هذه الحكومة عن الإستجابة الفورية لمطالب الناس الأساسية في المزيد من الخدمات ومحاربة المحسوبية و الفساد.
وبالرغم من أن التشكيلة الوزارية الجديدة لهذه الحكومة هي ثمرة مرحلة سياسية مختلفة جدا في العراقي ما بعد 2003. وبالرغم من كونها حكومة مقدمة من قبل التحالف الشيعي المسمى" الإطار التنسيقي"، إلا أن العراقيين يلقون عليه آمالاً كبيرة.
فرئيس الوزراء محمد السوداني، و الذي هو أمين عام تيار " الفراتيين" الذي أسسه سنة 2021. كان قد إنشق أساسا من حزب الدعوة. و كان أيضا مرشحا سابقا من قبل نفس الحزب، لرئاسة الوزراء، لكنه قوبِل برفض شديد من التيار الصدري.
علما أن السوداني قد أسس تياره السياسي الخاص، على إثر المطالب الإصلاحية التي نادت بها المظاهرات التشرينية الأولى لسنة 2019. و يرى محللون أن المرونة التي أبداها التيار الصدري حيال ترشح السوداني هذه المرة، تُعزى إلى الاستقلالية السياسية التي تجلت في مواقف و تصريحات السوداني.
غير أن ذلك لا يعني تغييرا كبيرا في موقف التيار الصدري من السوداني، حيث وصف زعيم التيار مقتدى الصدر في آخر مقابلة إعلامية معه، وصف حكومة السوداني بحكومة الميلشيات. وذلك في إشارة إلى القوى دفعت بالسوداني ليكون مرشحا ـ محل نزاع ـ لرئاسة وزراء هذه الحكومة.
ستشكل الأيام المقبلة اختبارا صعبا لحومة السوداني أمام التيار الصدري و الشرائح الاجتماعية المختلفة من الشعب العراقي. وذلك لأن مسعى التيار الصدري في إبعاد الحكومة العراقي من الوصايا والهيمنة الإقليمية، يحظى بتأييد شعبي في الشارع العراقي. خصوصا رغبة الصدر في تحرير الحكومة من الأحزاب العراقية المؤيدة لايران و التي تحالفت فيما بينها في كتلة " الإطار التنسيقي". حيث حاول الصدر تأسيس حكومة أغلبية برلمانية عبر التحالف مع الأحزاب العراقية الصغيرة، دون أن تثمر جهوده شيئا ملموسا في المحصلة.
لقد قام الصدر بمناورات سياسية كثير من أجل الوصول إلى مرشح لتشكيل الحكومة، يكون أكثر قبولا في الشارع العراقي. ضمنها، إعلانه التكتيكي بالانسحاب من الحياة السياسية، و التي يبدو أنها لم تحدث أثراً كبيرا. ويتفق أغلب المحللين أن فكرة انسحاب الصدر من الحياة السياسية غير ممكنة بالنسبة له، و ليس في مقدوره أيضا أن يخذل جمهور تياره الذين وضعوا آمالهم بقاء الصدر على رأس هذا التيار.
هذه الأمر تجعل من المحتمل أن يصبح تيار الصدر بمثابة المراقب السياسي لأداء حكومة السوداني. وبالتالي سيستأنف الصدر محاولاته في الضغط على القوى السياسية، لتكريس فكرة أن هناك بديل أفضل من القوى العراقية الحاكمة، والتي وصلت بالناس منذ سنوات، إلى أسوء حال.
إن تحرك الشارع العراقي ضد الحكومة العراقي ليس بأمرٍ جديد. لكن أُضيف إليها هذه المرة، قدرة التيار الصدري على إدناء واحتواء شرائح أوسع من الشارع العراقي في المظاهرات. وبشكلٍ خاص، أصوات الطبقة الوسطى و الفقيرة من المجتمع، تلك التي ضاقت ذرعا بفساد الحكومات العراقية المتعاقبة. وهذه الأصوات تزداد زخما يوما إثر يوم، وتشكل قوة ضغط محسوسة في الشارع العراقي.
يزعم السوداني بأنه سيقوم بإجراءات إصلاحية كبيرة و سيواجه الفساد. وكبداية لأعمال حكومته، قام السوداني بإقالة عدد من المسؤولين الذين تدور حولهم شُبهة الفساد باختلاس المال العام وتهريب النفط. كما أنشأ لجانٍ أخرى مساعدة للجنة النزاهة البرلمانية. قد تعطي هذه التدابير ارتياحا مؤقتا للجماهير السياسية العراقية. حتى وإن بدأت أنها متكلفة أو مسرحية، إلا أنها قد تساهم في تقوية مكانته السياسية و إبعاد الشكوك السلبية عنه.
هذه البداية الناجحة للسوداني مجرد إنجاز مؤقت. ولترسيخ هذا الاستحقاق، عليه أن يقوم في الآجل القريب، بترجمة وعوده إلى وقائع. وذلك من أجل تهدئة السخط العام، و الذي سيبقى كالجمر تحت الرماد، قابل للتأجج في أية لحظة.
بينما إذا استعاد بعد فترة وجيزة، تقاليد الحكم السابقة للحكومات التي سبقته. فإن الإمور سرعان ما ستعود إلى أسوء مما كانت عليه. وذلك لسبب صريح جدا : هذه المرة، لم تعد مطالب المتظاهرين هي ذاتها التي تدعيها القوى والتيارات العراقية السياسية والدينية، هذه القوى التي اعتادت أن تمتطي سخط الناس وتستغله لمصالحها.
ثمة صمت حول إمكانية إجراء انتخابات مُبكرة في العراق. غير أن ذلك لا يعكس غيابا لهذه الفكرة. ففي إطار المنافسة السياسية، يوجد موقف قوي وشبه اتفاق بأن تُكمل حكومة السوداني مهامها في الوقت المتبقى من الدورة الانتخابية الراهنة. مع ذلك، يبقى بقاء هذه الحكومة رهينا بأدائها لمهامها الحساسة في هذا الوقت الحرج. لذلك، يمكن لضغط الشارع العراقي أن يؤدي بالقوى السياسية إلى اللجوء إلى فكرة الانتخابات المبكرة.
لقد أدى زيادة انفتاح العراق على محيطه الإقليمي والدولي، إلى تغذية الوعي السياسي في الشارع العراقي. وباتت المجموعات الأهلية، رويداً رويداً أكثر ابتعادا عن الانتماءات المذهبية المتطرفة. وكذلك، تصاعدت وتيرة الرفض العام للوصايا الإقليمية. وتقدمت المطالب الوطنية على الحزبية، وظهرت الشعارات التي تطالاب الهوية الوطنية، واتخاذ الوطن مصرا أساسيا للهوية العراقية المدنية، ولقوة الدولة، ولإجراء الإصلاحات وإخراج البلد من وضعه المزري الراهن.
لذلك، ما أن يُطرح اسم ما بتسنم رئاسة الحكومة العراقية، حتى يسارع الناس إلى البحث عن طبيعة القوى السياسية التي تدعمه، وكذلك عن إرثه السياسي والاجتماعي وإلى أي مدى كان بعيدا عن شبهات الفساد.
كخلاصة، يمكننا القول، بأنه لم يعد ممكنا اليوم، أن تستغل القوى السياسية العراقية مقدرات الدولة ومؤسساتها لتكريص مصالحها الحزبية الضيقة. أو تكون مجرد قوة " وظيفية" في خدمة الدول الإقليمية. لذلك على هذه القوى أن تُدرك جيدا، وتتنبه إلى قوة الشارع العراقي، الذي رغم معرفته بأنه سيتعرض لشتى أشكال القمع، يخرج للتظاهر ويستمر في تنظيم اعتصامات عارمة ضد هذه القوى.
فلقد ذاق العراقيون مرارة تجارب الحكم السابقة. و بالرغم من أن قوى الضغط في الشارع العراقي لم تحدث تحولات سياسية كبيرة، إلا أنه بدأ في التأثير في موازين القوى في السلطة. فالسخط الشعبي يمتد من أقصى البلد إلى أقصاه. ونعتقد بأن القادة العراقيون بإمكانهم قراءات هذه التحديات، و يستجيبوا لها بالطريقة الأمثل، لئلا يعود التاريخ القريب مكررا نفس المشهد.