مآلات الاحتلال التركي في سوريا

مآلات الاحتلال التركي في سوريا

داريوس درويش

تعمل تركيا منذ احتلالها للمدن الكردية في الشريط الحدودي السوري التركي (عفرين 2018) و( رأس العين وتل أبيض 2019)، على توسيع مساحة الأراضي التي تستقطعها من سوريا غصبا. تساندها في ذلك قوى المعارضة السورية الإسلامية. وبالرغم أن التهديدات التركية بالقيام باجتياح آخر للأراضي السورية، ظلت مجرد شعارات للتوظيف الداخلي، إلا أنها تحولت منذ 20 نوفمبر إلى عملية قصف جوي للبنى التحتية في شمال وشرق سوريا، ولمواقع تابعة لقوات سوريا الديموقراطية( قسد).
تشكل الفصائل السورية المتطرفة والمنضوية تحت مسمى "الجيش الوطني السوري" الذي تتحكم به تركيا، الذراع التركية في العمليات العسكرية البرية ضد قوات سوريا الديموقراطية.
ستواجه تركيا بداية، فيما لو تحقق هذا السيناريو، مشكلة قانونية في شرعنة استمرار احتلالها للأراضي السورية. ففي شرقي الفرات، تعتمد تركيا في تدخلها البري في المناطق الكردية على ما تعتبره حقها، وفق ميثاق الأمم المتحدة ( المادة 51) iواتفاقية أضنة عام 1998 مع نظام الأسد، في مواجهة ما تدعيه بالخطر الأمني الذي تشكله قوات سوريا الديمقراطية عليها. إلا أنه بالمقابل، لا تمنح هاتان الوثيقتان الحق لتركيا في إبقاء احتلالها بعد إزالة الخطر المزمع الذي يتهددها. لذلك، فإن حدث وقامت تركيا بعملية عسكرية برية، وأفضت إلى إخراج قوات سوريا الديمقراطية من شرق الفرات ، سيؤدي ذلك بالضرور ة إلى بطلان حجتها في الدفاع عن نفسها وفقا للمواثيق المذكورة أعلاه. وبالتالي سيكون مشروعا لروسيا أن تتوسط لتقديم طلب سوري رسمي بإجلاء القوات التركية من المناطق التي تحتلها. و سيكون هذا الطلب موافقا للقانون الدولي.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الضفة الأخرى غرب نهر الفرات، حيث تعتمد تركيا بشكل أساسي على محادثات آستانا 2017 (اتفاقية خفض التصعيد) من أجل شرعنة بقاء قواتها في مناطق سيطرة المعارضة الإسلامية في الشمال السوري، وذلك بوصفها ضامناً يمنع هجوم هذه الفصائل على قوات النظام السوري. إلا أن المثير في هذه الاتفاقية الشكلية، التي لم تخفّض حتى الآن أي تصعيد مهم من قبل النظام السوري ضد مناطق المعارضة، أنها اتفاقية مقيدة الصلاحية، 6 أشهر قابلة للتجديد بشرط توافق الأطراف الضامنة، ومن بينها روسيا التي يمكنها، متى ما أرادت، عدم الموافقة على التجديد والطلب بشكل قانوني من تركيا إخراج قواتها خلال مدة أقصاها 6 أشهر من مناطق سيطرة المعارضة الإسلامية.
إذاً، فإن شرعية بقاء القوات التركية في سوريا مرهونة بمحض المشيئة الروسية، والتي من المرجح ألا تتوفر بعد إنجاز تركيا مهمتها بالقضاء على قوات سوريا الديمقراطية. فالمكاسب السهلة والمجزية التي جناها الروس حتى الآن من مبادلات الغوطة وحمص وحلب مع مناطق النفوذ التركية الحالية إنما حصلت عليها بنتيجة وجود الخلافات التركية مع قوات سوريا الديمقراطية. لذا، حالما تنتهي هذه الخلافات بانتهاء قسد، لن يبقى لتركيا أي دور مهم تؤديه لروسيا، ولا حتى دورها الشكلي في كبح القوى الإسلامية التابعة لها من الهجوم على قوات النظام السوري. لأن كل اتفاق روسي تركي يفضي بالضرورة إلى سحب مناطق أخرى من الفصائل الإسلامية لصالح النظام. كحالة بقية عمليات التبادل بينهما. وسيكون حينها الطلب الروسي بإجلاء القوات التركية عن سوريا مسنداً بالاتفاقية التي وقعت عليها تركيا في أستانا، وما على هذه الأخيرة سوى التنفيذ.
ربما تراهن المعارضة الإسلامية على قوة تركيا من أجل رفض هكذا طلب من روسيا، وهو رهان على توفر الرغبة أولاً، والقدرة ثانياً، لدى تركيا على خوض هكذا معركة. ولكن، لماذا ستتحمل تركيا مشقة القضاء على تهديد صغير من قسد، فقط لتجد نفسها بعدئذ مباشرة في معركة أخطر وأكثر تكلفة بكثير مع النظام السوري وروسيا؟ بطبيعة الحال، لا تغفل تركيا عن نتائج ما بعد صولتها الأخيرة في سوريا، بل وأعطت مؤشرات واضحة توحي بتوقعها وتقبلها لهذه النتائج بعدما صرحت مؤخراً استعدادها لإعادة التواصل مجدداً مع النظام بحجة "الواقعية السياسية". والحال أن واقعيتها السياسية هذه ليست جديدة، بل تعود إلى عام 2015 حين بدأت بانعطافتها الأهم عن الثورة السورية وتحويل هدفها في سوريا من إسقاط الأسد إلى كسر شوكة الكرد. والحق أنها، فيما لو قضت على قوات سوريا الديمقراطية، ستكون قد حققت كل ما تريده من سوريا، ولن تثير بضع مجموعات من المتطرفين والمنفلتين وقطاع الطرق شهيتها لتحمل أية مخاطر، صغيرة كانت أم كبيرة، من أجل بقائها في سوريا لحمايتهم ودعمهم.
من جهة أخرى، هل ستتجرأ تركيا على خوض هكذا معركة مكشوفة الظهر دون أي حليف؟ الواقع أنها لم تتجرأ على ذلك عام 2020 حين قتل الطيران الروسي أكثر من 30 جندياً تركياً في قصف على دورية عسكرية في إدلب. هزالة الرد العسكري حينها لا توازيها إلا هزالة رد الدبلوماسية التركية مؤخراً التي غردت سفارتها في شباط الماضي (قبل أن تحذف تغريدتها لاحقاً) أن "الانتقام لـ 34 جندياً تركياً قتلوا من قبل القوات الروسية في إدلب قبل عامين جرى الآن في أوكرانيا"، وذلك تباهياً بمشاركة بضع طائرات بيرقدار، يملكها ويشغلها الجيش الأوكراني، في قصف قافلة عسكرية روسية. الواقع أيضاً أن تركيا متشككة جداً من قدرتها على الاعتماد على دعم حلف الناتو لها في أي معركة في سوريا، إذ يشترط الحلف من أجل تفعيل المادة الخامسة من معاهدته، أن يكون الاعتداء على الدولة العضو قد حصل ضمن أراضيها وليس خارجها، هذا عدا عن العلاقات المتوترة مع الحلف منذ قرار الولايات المتحدة سحب بطاريات الباتريوت من الحدود التركية عام 2015، وما تلتها من "انعطافات" تركية نحو روسيا ومنظومتها الصاروخية.
لطالما كان إرضاء روسيا هو من أهم أهداف تركيا في استخدامها للمعارضة السورية الإسلامية عبر إعطائها الأوامر بالانسحاب من مناطق المبادلات. ولا يتوقع أن تكون المغامرة التركية الأخيرة شذوذاً عن القاعدة أو أن تمر دون أوامر مماثلة بإخلاء مناطق سيطرة المعارضة (وربما تسليمها لهيئة تحرير الشام) أو أقله قطع الدعم عنها. لا شك أن النتائج حينها ستكون كارثية، ليس على الكرد والسريان فقط الذين سيخسرون كل ما تحصلوا عليه من حرية قومية، وليس على عرب الرقة ودير الزور فقط الذين سيصبحون عرضة لانتقام النظام ومسرحاً للميليشيات الإيرانية، ولكنها ستكون كارثية أيضاً على السكان في مناطق سيطرة المعارضة الذين سيجدون أنفسهم وحيدين هذه المرة دون أن يكون لديهم حتى "رفاهية" التهجير واستيطان المناطق الكردية، ما يضعهم مباشرة في قلب مجازر الطائرات السورية والروسية، ويجعلهم وقوداً لجحيم أجهزة مخابرات النظام.



ميثاق الأمم المتحدة ( النص الكامل ) على الرابط التالي
https://www.un.org/ar/about-us/un-charter/full-text