اللغة في المسألة القومية الكُردية 1-2
كمال شاهين
ليس فقط بالنسبة للباحثين المختصين، بل لغالبية القراء المهتمين بدراسات القومية وتفسيراتها، يعتبر كتاب "الجماعات المتخيلة، تأملات في القومية وانتشارها" للمؤلف اﻷندونيسي اﻷصل "بندكت أندرسون" (1936 ـ 2015) Benedict Anderson علامة مميزة في دراسة "القومية" نقلت حضورها إلى مستوى مختلف عما تطرحه المدارس "التقليدية". ورغم الانتقادات الكثيرة التي طالته، وخاصة من الماركسيين، إلا أنه يكفيه شرف تحريك المياه الراكدة في مسألة حاضرة في غالبية اﻷدبيات الحديثة، وتكفي قراءة الكتاب لنتأكد أن هذه المسألة لم تنته مدة صلاحيتها البشرية حتى اﻵن، وأن التبشير المتكرر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية باقتراب "أفول عصر القومية" لن يحدث في الأفق المنظور.
تكتسي طروحات أندرسون أهميتها في الحقل الكُردي ﻷسباب مضافة، أبرزها أن المسألة القومية الكُردية ما تزال راهنة الحضور وتؤثّر فعلياً على المسار الكُردي المعقد، كما على مشهد الشرق اﻷوسط بشكل أكبر مما كانت عليه مطلع القرن الماضي، خاصة بعد التسعينيات وظهور إقليم "كُردستان العراق" على الخارطة الدولية للأمم والقوميات كإقليم ذي حكم ذاتي، ثم تجربة اﻹدارة الذاتية شمال شرق سوريا، بما يعنيه ذلك من تأسيس طويل اﻷمد لظهور "دولة" جديدة في المنطقة، منعها من الظهور فيما مضى الترتيبات الاستعمارية، وما موافقة الكُرد القاطنين في إقليم كُردستان على استفتاء الاستقلال عن العراق بأغلبية كبيرة، إلا إشارات هامة لمستقبل الإقليم والمنطقة لم تغفل عنها القوى اﻹقليمية التي تتكاتف لمنع ظهور تلك الدولة بأي شكل كان.
يناقش البحث الدور المركزي الذي لعبته اللغات في تشكيل فكرة القومية بما هي منتج من منتجات الثورة الصناعية الغربية وامتداداتها حول العالم، مركزاً وأطرافاً، وكيف أثّرت في صناعة وصياغة أشكال الفكر القومي لدى الكُرد، وهو ما قد يتشابه مع ظروف أمم أخرى، لكن بغياب حضور مركزي للدولة، ونركّز على فكرة "تخييل اﻷمة" عبر الخطاب من بدء القرن الماضي متابعين انتقال اللغة والشعب الكُرديين من هيولى قومية (قبلية ومتباعدة) إلى محددات معاصرة تتقاطع جزئياً مع بعض أشكال بنى الدولة، خاصة في الميديا التي تغيرت بعد التسعينيات فاتحةً المجال العمومي الكُردي المتنوع لحضور الواقعي والمتخيل القومي عبر التلفزة واﻷنترنت والاتصالات، بنفس الوقت جعلت الأمة المتخيلة تتعرف على بعضها بعضاً بطريقة جديدة قبل أن يتعرف إليها الآخرون، وهذا أمر لم يكن عادياً أبداً.
يعمل البحث على مقاطعة طروحات أندرسون بما يخص واقع المسألة القومية الكُردية في محاولتها على خطى قوميات أخرى صياغة نموذجها الخاص معتمدةً على المزج بين مفاهيم الدولة الحديثة والحقوق الثقافية والسياسية، وخاصة عبر أدبياتها التي استغرقها موضوع العلاقة بين القومية والمواطنة كما التأسيس لفكرة اﻷمة الكُردية في عمق التاريخ، وهو التأسيس المتخيل الذي مارسته كل اﻷمم الحديثة في علاقتها مع ماضيها كما حاضرها.
يخلص البحث إلى جملة توصيات تتعلق باللغة الكُردية وخرائطها التي استعصت على التوحيد سنوات طويلة، وينتهي إلى التأكيد على ضرورة وجود مؤسسات تعمل في هذا الحقل الاستراتيجي تفادياً لتفكك منظومات اللغة الكُردية بلهجاتها في ظل محاولات اللغات اﻹقليمية الطغيان عليها، سواء في جانبها الكتابي أو الشفوي اﻷكثر عُرضةً من غيره للمحو بالتدريج.
1- مقدمة:
منذ انطلاقة الثورة الصناعية في أوروبا القرن الثامن عشر وصولاً إلى اليوم، احتلّت القومية ودراساتها موقع الصدارة في مشهد العلاقات الداخلية للدول بالجدل مع تيارات وتجارب فكرية وسياسية رئيسية، بعض منها، مثل الماركسية، من موقع التعارض، ولم يقتصر اﻷمر على أوروبا وأميركا بل انتقل إلى مختلف بقاع "القوميات" ﻷسباب كثيرة. واليوم، تقريباً، فإن غالبية "المكوّنات" البشرية والحركات السياسية، بأنواعها، تصف نفسها في أدبياتها باستخدام المصطلحات القومية، بعض منها يجمعها مع الدين كعامل توحيد، وبعضها اﻵخر يضع اللغة أساساً، وتُشرك نظريات أخرى "عناصر" اﻷرض، وحدة الشعب، التاريخ المشترك، الثقافة والفلكلور، وغير ذلك، ومما لا شك فيه، أن القومية كما كانت قبل قرنين من القوى اﻷساسية المحركة للتاريخ العالمي، فهي ما تزال كذلك، وتتسبب في نزاعات دامية في مناطق مختلفة حول العالم.
وبعد قرابة أربعين عاماً على صدوره للمرة اﻷولى (1983) وترجمته إلى أكثر من 33 لغة حول العالم (من بينها العربية والعبرية واﻷوكرانية والبرازيلية دون الكُردية)، تحوّل كتاب أندرسون إلى ما يشبه كتاباً مقدّساً في جدل القومية، ولا يمكن اليوم إجراء مناقشة حول مفاهيم اﻷمة والقومية دون اﻹشارة إلى هذا الكتاب الذي ساهم في إعادة موضعة دارسات القومية في سياق مختلف عن سياق المركزية اﻷوروبية، وهو ما وعاه الكاتب في مقال نشره عام 2001 حيث أوضح أن كتابه كان "الدراسة المقارنة الوحيدة التي تتناول تاريخ القومية على نحو قُصد منه مقارعة المركزية اﻷوروبية واﻹفادة من المصادر اللغوية غير اﻷوروبية" ( ).
النقاش العابر للقارات، والتحرر من ثقل المركز اﻷوروبي، والجمع بين الماركسية بوصفها أدوات تحليلية، إضافة إلى علاقتها مع القومية بوصفها أحد مسائلها التي فشلت في تقديم حل لها، والليبرالية في انفتاحها على تفكيك مفاهيمها جعلا الكتاب حاضراً على مدار السنوات الماضية في كل النقاشات المعاصرة للقومية، وأضافت سهولة الكتاب وقربه اﻷكاديمي من الناس حضوراً مكثفاً له بين الجمهور العادي.
أحد أهم أسباب شهرة الكتاب وحضوره ليس فقط مفاهيمه النظرية الجديدة التي يطرحها أمام القارئ مستفيداً من خلاصات تطورات المسألة حتى نهاية القرن الماضي تقريباً، بل استعادته للقومي مستنداً إلى مفاهيم كادت أن تجرفها الحداثة الغربية (الدين، والقرابة) مؤكّداً استمرار حضورها في مختلف الصيرورات اﻹنسانية، خاصة من لم تحقق بعد "اكتمالها" القومي بالدولة أو بالمواطنة المرتبطة بالقومية ضمن دولة ما.
وعدا عما سبق، فإن المسألة القومية الكُردية تناهبتها، حتى اﻵن، تيارات وقوى سياسية ـ قومية ـ كثيرة غطّت على المسألة اﻷساسية باتجاه مسائل أقل ارتباطاً بالضرورة الكبرى لها، الوحدوية، وأقل فعالية فيها من جانب ثان، حيث لا تزال نهباً للتأثيرات الدولية، وتحتاج إلى إعادة بناء منطلقات التركيز على المشترك الجمعي الكُردي في وقت تطيح فيه اﻹمبريالية المعولمة بسيادة الدول، وما جرى في شمال وشرق سوريا يوضح ويؤكد اﻷمر.
من جانب أخير، هنا، إن التركيز السياسي ـ اﻷيديولوجي الذي غطّى المسألة القومية عبر القرن الفائت، تسبب في إبعاد فضاءات الجماعات الكُردية عن مشتركها وأحياناً تناحرها بدل تأسيسها لشكل من كيان جامع ولو كان متخيلاً، وهو ما استعيض عنه في بعض اﻷنحاء بواقعية تختلف بين تنظيم وآخر، بمعنى أن الخلاف السياسي والإيديولوجي (المتراكبان بالضرورة) قد أديا دوراً سلبياً لجهة إزاحة المشترك الأساسي (الاجتماعي) درجة ثانية، يتضح ذلك في القضية التي سنركز عليها، أي تطورات مساقات اللغة الكُردية بعد أكثر من قرن على انطلاق عصر القوميات.
علاقة القومية مع اﻹيديولوجيا هي علاقة متراكبة إلى حد كبير تتجلى واضحةً في بناء الحركات الوطنية على مفاهيمهما معاً، سواء في مرحلة النضال لنيل الاستقلال من المستعمر أو في مرحلة بناء الدولة ـ المجتمع، وتكون اللغة حاملاً موضوعياً وذاتياً لهذه "المتخيلات الجمعية" فهي في الحالتين "القومية، واﻷيديولوجيا" المختبر الذي تتم به كافة التحولات العقلية / اﻹيمانية في الجسم السياسي. من هنا، ندرك الحاجة الماسة لتظهير اللغة الكُردية في وحدتها، في سياق متفق عليه كردياً قبل أن يتفق عليه خارجيا (وهذا مستحيل عملياً)، مع إدراكنا الصعوبة القصوى في تحويل لغوي يطال عدداً كبيراً من البشر في حقبة زمنية محدودة، تحتاج أجيالاً لتحقيق تلك الغاية، التي مفتاحها التعليم، وفي ظل الشتات الكُردي يبقى السؤال أصعب من ذلك بكثير.
لمتابعة القراءة يرجى تحميل الورقة كاملة أدناه:
Download