ثنائية "كساد/ تضخّم" تحديات اقتصادية من هنا حتى باكستان
نوڤين حرسان
تعني "هنا" موقعك أينما كنت، فالعالم على شفا مواجهة بين مفاعيل الكساد ومفاعيل التضخم، وعندما ترزح دولٌ بعينها تحت عقوبات واشنطن ، وتتسع هذه العقوبات لتشمل دولاً كبرى منتجة للطاقة والغذاء، لا بدَّ أن تنعكس العقوبات بدورها على العالم بأكمله، بل على الدول الفارضة للعقوبات ذاتها.
من هنا ينبثق تمايزٌ جديد آخذ في التبلور بين دول تعاني من كساد منتجاتها بعد إغلاق الأسواق العالمية قي وجهها بسبب العقوبات، ودولٍ ترزح تحت نير تضخمٍ اقتصادي متنامٍ نتاجاً لنقص هذه المواد كما يحدث اليوم في الغرب. فما هى سعة نطاق تحرك الفريق الأول لتخفيف آثار هذا الكساد طويل الأمد، وما هي فرص الانعتاق جزئياً من هذه العقوبات.
تنبع سلطة الولايات المتحدة في فرض العقوبات، من هيمنة الدولار الأمريكي وأولويّته في التداول في الأسواق الدولية، ومن فرض نطاق رقابة محكم على القنوات المالية العالمية عبر أنظمة التحويل، فحسب اتفاق بريتون وودز Bretton Woods 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح الدولار عملة الاحتياطي العالمي الأوسع استعمالاً في المعاملات العالمية، تلاه تطبيق أنظمة تحويل مالي مسيطر عليها من قبل القطب الأمريكي وأهمها نظام SWIFT الشهير.
على إثر هذا يسعى أعداء الولايات المتحدة في دأبهم للتخلص من الكساد، إلى ابتكارات مالية تقلل من مزاياها وتساعد في تقليل الاعتماد على الدولار، فأوجدت اتفاقيات مبادلة العملات وبدائل نظام SWIFT والعملات الرقمية. فالصين الدولة المتعطشة إلى الطاقة المنتجة في روسيا، أنشأت نظاماً بديلاً لـ SWIFT وهو نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود CIPS، لكن مدى فاعلية هذا النظام يبقى سؤالاً معلقاً، إذ بمقارنة بسيطة نجد أنه في العام 2021 عالج نظام CIPS ما لا يزيد عن 12 تريليون دولار من المعاملات، وهو ما تنجزه SWIFT في أقلّ من ثلاثة أيام.
في الآن ذاته بدأت هذه الدول في البحث عن أسواق جديدةٍ محتملة، كما حصل في توجه روسيا إلى الباكستان مثالاً، فمنذ أيام صرّح نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك إنّ موسكو مستعدةٌ لبيع الغاز الطبيعي إلى باكستان من خلال "البنية التحتية لآسيا الوسطى أو في مبادلة من الأراضي الإيرانية". وجرت بالفعل محادثات مع شركات روسية خاصة ومملوكة للدولة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال وفق ما صرّح به وزير الدولة الباكستاني للبترول ، مصدّق مالك.
لكن سرعان ما بدأت التقارير تتوالى من باكستان الدولة الواقعة جنوب شرق آسيا، مشيرةً الى أنّ استئناف النقاش حول واردات الغاز من روسيا لن يصل إلى حدٍّ كبير لسببين.
أولاً ، افتقار باكستان إلى البنية التحتية لاستيراد الغاز الروسي.
ثانيًا ، عدم الكفاية في نظام خطوط الأنابيب الحالي في نقل الغاز من نقطة إلى أخرى.
وبهذا تبقى محاولة باكستان لاستيراد الغاز الروسي حلماً بعيد المنال بالنسبة للدولة التي تعاني من ضائقة مالية أصلاً فإنفاق باكستان على التنمية انخفض 38 في المائة في تشرين الثاني، وفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية الباكستانية ، وهذا الانخفاض الهائل لن يؤدي إلى إبطاء الاقتصاد فحسب ، بل سيؤثر أيضًا على تحصيل الإيرادات.
هذا مثالٌ صغير، فكيف لدول الكساد أن تجد أسواقاً جديدة بين حلفاء يعانون من ضعف الاقتصاد أصلاً نتيجة دورة التضخم وانعكاسها على بقية دول العالم؟
على المقلب الآخر يحاول الحليف الأقوى وهو الصين بشتى السبل تخفيف هذا الحصار عن الدول المصدرة للطاقة كونها الشريان الحيوي للاقتصاد الصيني، ولقاء الرئيس شي جي بينغ بزعماء دول الخليح والاتفاقات التي حصلت بعدها، خطوةٌ واعدة على هذا المسار، لم تظهر ثمارها بعد فلا يخفى نفوذ الولايات المتحدة الكبير في الخليح العربي رعم الخلافات الآنية.
أما نقطة التحول في بروز ثنائية كساد/ تضخم في العالم، وارتباط العقوبات بمفاعيلها، فهي قطعاً الحرب الأوكرانية التي أتاحت فرض عقوبات على مناطق شاسعة عالمياً هي روسيا وعددٍ من حلفائها، لتنضم إلى سوريا والعراق وليبيا وإيران غير ناسين كوريا الشمالية ومن قبلها كوبا التي رزحت عهوداً طوال تحت مطرقة العقوبات الأمريكية، وأي انفراج على هذا الصعيد قد يقود الى تغيير المعادلة.
تبقى هذه الثنائية للكساد والتضخم حتى ذلك الوقت في يد قطبٍ وحيد يدير مجرياتها، حتى تبرز أقطاب جديدة وتتبلور رؤى أخرى لعهد عالمي جديد مرتقب.