أصنام الشعوب المضطهدة

أصنام الشعوب المضطهدة

إبراهيم خليل

ينطلق الموضوع في أصله من نقطة أولية هي (امتلاك المقدس المواصفات التي أطمح إلى امتلاكها) ويمكن إجمال هذه المواصفات بشكل رئيسي تحت بندي (العلم والقدرة) في أقصى اتساع بشري ممكن لهما وهي الثنائية التقليدية ذاتها التي ميزت الآلهة والأنبياء على مر العصور. أما بشأن المظاهر والصفات التكميلية الأخرى، كجمال الهيئة وسلامة البنية والقوة الفيزيائية والحصانة ضد الضعف أو المرض أو الموت، فتأتي من تلقاء نفسها تبعا لتمكن تلك الثنائية المذكورة من خيال الفرد العابد.
لا يرتبط تقديس الأفراد كامتياز بحضارة دون سواها، ولا بمنطقة جغرافية أو مرحلة تاريخية دون أخرى، بقدر ما يرتبط بنسبة الوعي ومدى استقلال شخصيات الأفراد داخل المجتمعات. ولكن من الضروري جدا هنا التفريق بين الدراسة والتحصيل العلمي من جهة، والوعي والإدراك من جهة أخرى. لئلا ننزلق إلى فخ اعتبار جميع أتباع "القائد الملهم" حشودا من الجهلة والأميين، وجميع معارضيه من النخبة الواعية.
ما يميز الشخصية المقدسة على مر التاريخ هو اعتمادها على فاعلية الجموع لأسباب عميقة تتعلق بالجموع نفسها. درسها غوستاف لوبون بشكل رائع ومفصل في "سيكولوجية الجماهير". ولذلك تجد إن تصرف القائد مع الجماهير مختلف كليا عن تصرفه مع الأفراد. ففي حين يقدم نفسه خادما لما يسميه "الشعب" وراعيا لمصالحه، تجده يسحق الأفراد سحقا ماديا أو معنويا أو ماديا ومعنويا معا. ودون أن يشعر هو ولا حتى الأفراد الآخرون (غير المسحوقين مؤقتا) بأي تناقض في ذلك السلوك.
تقديس القادة على الطريقة السورية:
لا تتذكر غالبية السوريين الأحياء اليوم رئيسا للبلاد سوى حافظ الأسد. بل إن اللاوعي السوري الجمعي ما زال حتى اللحظة يشعر بوجوده حيا وحاضرا في جميع التفاصيل اليومية حتى بعد مرور أكثر من عقدين على وفاته. وما استبدال كلمة "بشار" بكلمة "حافظ" في حقيقته سوى انتقال من غرفة إلى أخرى ولكن داخل البيت نفسه.
نجح حافظ الأسد على مدى ثلاثين عاما في فرض نفسه كوجه دائم الحضور، من خلال صوره الموزعة في كل مكان، بغض النظر عن طبيعة ذلك المكان (حكومي، شعبي، نقابي، شركات خاصة، ملاعب رياضية، كتب، مجلات، ملابس ...) ومناسباته الخاصة المفروضة على الجهات الرسمية الاحتفال بها، وسيرته الحزبية والسياسية والنضالية التي يتم تدريسها للتلاميذ والطلبة في جميع المراحل العمرية.
النقطة الثانية التي ساهمت في صنع أسطورة حافظ الأسد هي سلوكه الشخصي الصارم والتزامه بالتحدث بالعربية الفصحى (مخالفا جميع الرؤساء العرب تقريبا) فالسلوك الشخصي المحسوب كان يجعله في منأى عن أي استخفاف أو سخرية محتملة والعربية الفصحى كانت ستارا مناسبا لإخفاء لهجته الساحلية المذكرة باختلافه وأقلويته، ومحاولة لاستعادة لغة خلفاء بني أمية في مواجهة سائر اللغات واللهجات الوضيعة الأخرى التي يتحدث بها عامة الناس.
وفي ظل هذه الكاريزما الأسدية الطاغية لم تتمكن المعارضة الضعيفة من إنتاج شخصية موازية يكون لها الثقل نفسه. فكل من تركهم الأسد أحياء كانوا بدون استثناء في وقت ما "طلائع البعث" ثم "شبيبة الأسد" ثم "جنود في جيش الأسد". وكان من المستحيل بعد المرور بكل عمليات التدجين والتشويه تلك ظهور أسد آخر يكون محل إجماع في مواجهة "الأسد" الأصلي وما ينطبق على المعارضة العربية ينطبق مضاعفا على الكردية.
مع نشوب الحرب السورية تجرأت الجماهير الغاضبة في معظم المدن السورية ذات الغالبية السنية على تمزيق صور المقدس وتحطيم بعض تماثيله وشتمه على بعض المنابر غير مدركة أنها تتحرك بوحي منه وأنها حتى وهي تمزق صورته وتحطم تماثيله تنفذ إرادته السامية وتقدم إثباتا جديدا على نجاحه الساحق في إفساد الشخصية السورية، وتحويلها إلى كائنات بدائية همجية تحركها الغريزة والعاطفة. وكانت النتيجة ما حدث لاحقا وأقفل الباب على أوهام "الربيع العربي" نهائيا.
أما في الشمال السوري فمع وصول شرارة الاضطرابات إلى الحواضر الكردية الرئيسية، حيث الأرضية ممهدة لقبول أي رمز بديل عن حافظ الأسد ولو كان شيطانا بقرنين، كان "حزب الاتحاد الديمقراطي" قبل ذلك بسنوات قد دخول الميدان السياسي السوري بالأفكار الأممية الجديدة التي اجترحها القائد بعد عام ٢٠٠٠ . وكان الحزب متحفزا بقوة وحماس لخوض تجربة السلطة وفرض رؤيته وتوسيع دائرة تقديس قائده (التي بدأت فعليا في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم) لتشمل منطقة جغرافية واسعة على امتداد الشريط الحدودي الشمالي السوري (روجافاي كردستان وفق التسمية الأولية) بكل ما فيه من أطياف وتكوينات.
تجاهل الحزب قدر الإمكان رموز الأسد القليلة أصلا في المنطقة من صور وتماثيل واشتغلت الماكينة الإعلامية بشكل محموم لتنفيذ الخطوة الأولى بطباعة آلاف الصور الشخصية للقائد الجديد على أي شيء قابل للطباعة من ورق وقماش وحديد وجعل اسمه وصورته لازمة لا بد منها في جميع الوسائل الإعلامية التابعة للحزب من صحافة وإذاعة وتلفزيون. ثم جاءت الخطوة الثانية وهي ترجمة النتاج الفكري الغزير للقائد إلى اللغة العربية وإنشاء مطبعة خاصة لطباعة آلاف النسخ منها وتوزيعها مجانا، وإلزام المعاهد والمراكز الاجتماعية والنقابية والتعليمية المفتتحة حديثا بحيازتها، والتلاوة منها خلال الاجتماعات والمؤتمرات ودروس ومحاضرات التوجيه السياسي. أما الخطوة الثالثة وهي الأهم، فكانت إعداد منهاج وكادر تدريسي مناسبين يكونان بديلا عن المنهاج والكادر الحكومي السوري. وهي الخطوة الأهم لأنها تضمن سلامة خطوط الإمداد الإيديولوجي ويمكن العثور على عشرات الأمثلة والتجارب السابقة عليها المشابهة لها لدى معظم الأنظمة التسلطية وأقربها زمانا ومكانا بالطبع هو حالة "طلائع البعث" آنفة الذكر.
وفي أقل من عقد، حولت الماكينة الإعلامية للحزب الحاكم زعيمها إلى شخصية شبحية كلية الحضور. وأصبح كرهه وحبه قسيم الوطنية والخيانة وباتت أي إساءة إلى صورته أو سيرته تصرفا شاذا يضع صاحبه في مواجهة المجتمع الموالي قبل أن يضعه في مواجهة "الجهات المعنية" أي بالشكل نفسه الذي كانت عليه حالة حافظ الأسد تقريبا.
لا يمكن لأحد بالطبع الجزم بأن كل هذه الإجراءات التطبيلية -وجميعها سورية أصيلة- حدثت بناء على أوامر مباشرة من زعيم الحزب. ولكن يمكن الجزم بحاجة جميع الأنظمة التسلطية عموما إلى ضرورة وجود أو إيجاد شخصية مقدسة وإدخالها عنوة في لاوعي الجماهير لتكون رمزا يمثل النظام ويجسده، لأن النظام كحالة هلامية غير قابلة للتجسيد، وهذا ما يجعل تجسيده ضرورة كضرورة بناء صنم لتقريب فكرة الله إلى الأذهان والحكم على الناس باسمه وهذا بالضبط ما كان يفعله كهنة العصور القديمة وما يفعله الكهنة الجدد اليوم.