السلام المميت واشنطن كعقبة أمام المصالحة بين أنقرة والنظام السوري

السلام المميت  واشنطن كعقبة أمام المصالحة بين أنقرة والنظام السوري

داريوس درويش

رغم ما تحظى به المبادرة التركية للتصالح مع نظام الأسد من دعم روسي واضح، يصورها وكأنها باتت في حكم المنجزة، بانتظار رتوش نهائية تحدد المكاسب التي سيجنيها كل من الطرفين، إلا أن واقع الحال يوحي بوجود مشكلة عويصة قد تمنع روسيا من تنفيذ حصتها من شروط الاتفاق، بما ينهي المصالحة المزعومة في مهدها، ويطرح السؤال حول الغاية الحقيقية من هذه المبادرة التركية ومن التسويق الروسي لها.
تصريح أردوغان حول إمكانية لقاءه الأسد على غرار لقاءه السيسي تحت يافطة براغماتية تقول بـ " لا خصومة دائمة في السياسة"(27/11/2022) ، إضافة إلى الوعد الذي أطلقه وزير خارجيته شاويش أوغلو بإعادة المناطق التي تحتلها تركيا في الشمال الغربي إلى حكومة الأسد، إنما هي إغراءات تأمل أنقرة من خلالها تشجيع روسيا على سحب قواتها من مناطق تواجدها مع قسد في كوباني ومنبج وتل رفعت، مفسحة بذلك المجال أمام قوات المعارضة السورية من أجل احتلال تلك المناطق مدعومة كالعادة بالقصف الجوي والبري التركي، مع ما يتبعها من تهجير السكان الكرد واستبدالهم بمستوطنين سوريين، مثلما حصل في عفرين ورأس العين.
إلا أن الأحلام التركية في إغراء الروس بالانسحاب من تلك المناطق، تصطدم بواقع وجود القوات الأمريكية في الجوار. من حيث المبدأ، ستكون موسكو سعيدة فيما لو أدى انسحابها إلى سيطرة تركيا والمعارضة السورية على تلك المناطق، إلا أنها تخشى أن ينقلب ذلك إلى كابوس، في عودة القوات الأمريكية إلى المناطق التي انسحبت منها. ففي نهاية المطاف، كان انسحاب القوات الأمريكية من مناطق سيطرة قسد عام 2019 ،خلال حقبة ترامب، هو الذي سمح للقوات الروسية أساساً بإنشاء موطئ قدم لها في تلك المناطق بعد دعوتهم من قبل قسد. لذا، لا مانع أمام قسد وأمريكا بايدن من تكرار السيناريو ذاته في حال انسحبت روسيا. ما يزيد من تخوف الكرملين من واقعية احتمال كهذا هو المعارضة القوية التي أظهرتها واشنطن ضد التقارب التركي - السوري، والمشفوعة بالمعلومات المنشورة حول استلام قسد في الآونة الأخيرة أسلحة أمريكية مضادة للدروع تعزز من قوتها الدفاعية في وجه الهجوم التركي، بما يمنحها وقتاً إضافياً قد يكون مفيداً إلى حين وصول القوات الأمريكية وتأمين المنطقة مجدداً ضد الهجمات التركية.
تحقق هذا السيناريو يعني تلقي الاستراتيجية الروسية في سوريا ضربة قاسية في صميمها. إذ لطالما كان تقليص المجال أمام النفوذ الغربي والأمريكي في سوريا، سواء كان قادماً عبر البوابة التركية أو الكردية، من أحد الأهداف الرئيسية لموسكو. من أجل ذلك قدمت الأخيرة العديد من التنازلات لتركيا، حين عض بوتين على جرحه النرجسي بعد إسقاط تركيا طائرة روسية عام 2015، وقبل التعاون مع تركيا رغم ذلك، وحين جعلها شريكاً وحيداً في مفاوضات "الحل السياسي"، بل وشرّع الوجود التركي العسكري في سوريا عبر اتفاقات خفض التصعيد. كذلك، قدمت روسيا عدة عروض دستورية وقانونية للكرد، وإن وجدتها قسد غير مغرية، من أجل التوصل إلى اتفاق مع النظام السوري، وبالتالي إلى إخراج أمريكا من الشمال الشرقي.
أضف إلى ذلك أن ما تحاول أنقرة إغراء موسكو به لتنفيذ الاتفاق لا يعوض الأخيرة عن خسارة بحجم عودة القوات الأمريكية إلى كوباني ومنبج. فتطبيع العلاقات مع دمشق لن يفيد النظام اقتصادياً وسياسياً بقدر ما يضر تركيا التي ستتعرض بدورها للعقوبات الأمريكية، كما أن الوعود بإعادة سيطرة النظام على مناطق الاحتلال التركي بعد إعادة ملايين اللاجئين إليها، لن يفيد النظام إلا في زيادة رصيده من الدماء، فيما سيفاقم من مشاكله الاقتصادية أضعاف ما هي عليه الآن.
يبدو أن إصرار موسكو على التسويق للاتفاق رغم المخاطر الاستراتيجية التي يمكن أن تتكبدها، إنما يهدف إلى تحقيق غايات أخرى لا علاقة لها بتاتاً بالاتفاق نفسه. من جهة، تسمح هذه البروباغاندا الإعلامية في تقوية موقف أردوغان في الانتخابات القادمة عبر نزع ورقتي التطبيع مع دمشق وإعادة اللاجئين من يد المعارضة التركية (وهذا بدوره يشي بأن أردوغان هو المرشح المفضل لرئاسة تركيا لدى بوتين). من جهة أخرى، تراهن روسيا أن اقتناع قوات سوريا الديمقراطية بقرب حدوث الاتفاق وتنفيذه، وبالتالي تصور نتائجه الكارثية المتوقعة، قد يودي بها، عبر ضغط شعبي كردي، إلى البحث عن حلول سريعة مع النظام تضمن لهم أدنى حد من الحماية ضد الإبادة الموعودة تركياً. كذلك، تراهن روسيا أن تؤدي نفس القناعة بقوات المعارضة الإسلامية في سوريا إلى الاصطفاف في طابور المصالحات بضمانات روسية تحميهم من مجازر النظام وسجون مخابراته.
كتبت جريدة الأخبار اللبنانية الموالية للنظام السوري ذات مرة أن الولايات المتحدة تقف حجر عثرة أمام تحقيق السلام في سوريا. رغم أن هذه المقولة ليست بعيدة عن الواقع، إلا أنها تغفل أن المصالحة بين تركيا وسوريا هي بمثابة سلام مُميت، سلام قائم على إبادة المجتمعات التي عارضتهما في شمال شرقي وغربي سوريا، من كرد وسريان وعرب سنة، سلام يستحق، فيما لو أحسنت أمريكا قتله، الثناء على قاتله.