حركة النقباء والقرنفل

حركة النقباء والقرنفل

كيفورك خاتون وانيس

لماذا لا تنجذب ولا تُعجب النخب الثقافية في بلدان الشعوب المقهورة إلا بالثورات أو الانقلابات العنيفة رغم اتضاح نتائجها الكارثية وثبات فشلها في حل كل المسائل؛ لا بل حتى تعقيدها وعرقلة مسيرة التطور التاريخي للشعوب ؟ هل لعبت العقلية الإيديولوجية المتوقعة دوراً في رفض الاطلاع على تجارب أوروبا الغربية؟ أم أن هناك من اطلع على مسيرة التطور السياسي والاقتصادي لدول الغرب ومع ذلك أصّر على المكابرة وخداع الذات فقط من باب أنها ليست نتاج الأيديولوجيا التي يؤمن بها ؟ ألا يتحمل هؤلاء بقصد أو من حيث لا يدرون جزءاً من مسؤولية تضليل أو خداع الأجيال الصاعدة من خلال تبرير وشرعنة ما يسمونه بالعنف الثوري ؟
أسئلة مشابهة وكثيرة طرحت نفسها أثناء التحضير لزيارة دولة البرتغال، إذ من عادتي أن أتزود ببعض المعلومات الجغرافية والتاريخية عن المكان الذي أنوي زيارته.
من ضمن الأشياء التي صادفتها خلال مسيرة جمع المعلومات والتي استوقفتني وحفّزت الأسئلة الآنفة الذكر، هو حركة النقباء وثورة القرنفل!
من المعلوم أن البرتغال كانت حتى تاريخ هذه الثورة هي أخر الديكتاتوريات في أوروبا الغربية وأطولها دواماً في الحكم في العصر الحديث (1932 – 1974).
كما كان لهذه الدكتاتورية سماتها الخاصة المختلفة عن بقية الدكتاتوريات التي عاصرتها، كذلك كان لهذه الثورة سماتها الخاصة المتميزة عن الثورات التي سبقتها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تكن هذه الديكتاتورية أيديولوجية أو عسكرية بالمعنى التقليدي (أي أن وصولها إلى السلطة في 1932 لم يتم بثورة أيديولوجية أو انقلاب عسكري)، إضافة إلى أنها استطاعت النأي بنفسها عن الحرب العالمية الثانية رغم العلاقة التاريخية الطويلة الأمد والتحالف المتين مع بريطانيا، إذ أن أجمل وأكبر حديقة في وسط العاصمة لشبونة تحمل اسم الملك إدوارد السابع ملك المملكة المتحدة.
كما أن ثورتها أيضاً لم تكن إيديولوجية أو عسكرية بحتة. صحيح أن التخطيط لها وإشعالها تم عبر حركة القوات المسلحة أو تنظيم النقباء (ضباط من ذوي الرتب الدنيا) إلا أن سرعان ما التف الشعب كله حولهما مما أدى إلا انتصارها انتصاراً ساحقاً غيّر وجه البرتغال واعادها إلى التاريخ بعد حوالي نصف قرن من التغييب القهري.
كحال كل التغييرات الكبرى التي تحدث سواء نتيجة ثورات أو انقلابات، هناك في هذه الثورة الكثير من الأمور الهامة التي يمكن الحديث عنها والاستفادة منها لكن للأسف لا يتسع المجال هنا لمناقشتها بالتفصيل، لذا سيتم تناول ما يميزها عن الثورات أو الانقلابات الأخرى من زاوية النتائج والمألات.
أولاً تكاد تكون هذه الثورة هي الوحيدة التي أحدثت نقلة نوعية للدولة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية؛ إذ أن كل الثورات التي تغنى بها الملايين في مختلف دول العالم ولازال يتغنى بها الكثيرون حتى يومنا هذا، كالثورة البلشفية والثورة الكوبية والثورة الثقافية في الصين.....الخ، استبدلت أنظمة حكم عسكرية أو ملكية بأنظمة أيديولوجية شمولية ديكتاتورية لا تقل سواءً عن تلك التي أسقطتها.
ثانياً. قدرة هذه الثورة على اسقاط نظام أمني أحكم قبضته الحديدية لمدة أربعة عقود، دون اللجوء إلى العنف؛ إذ لا ذكر لسقوط ضحايا أو سفك دماء في كل الأبحاث والدراسات التي تناولت هذه الثورة.
ثالثاً، لم ينصّب منظمو الثورة أنفسهم أوصياء على المجتمع، أي انهم لم يتمسكوا بالسلطة ويتوارثوها كما يحدث في جميع الثورات او الانقلابات؛ لم تتملكهم فكرة أن من يقوم بالثورة هم الأحق بالسلطة أو أن الثورة قامت فقط من أجل تغيير السلطة السياسية!
رابعاً، حتى الخلافات بين الثوار أنفسهم بعد استلام زمام الأمور كانت في حدها الأدنى؛ إذ أنها لم تصل حالة التخوين وما يتبعها من اعتقالات طويلة الأمد أو تصفيات جسدية كما حدث بين رفاق الثورة البلشفية او الثورة الكوبية أو الثورة الثقافية في الصين!
خامساً، رغم أن عملية التحول لم تكن سهلة على الاطلاق خاصة وأن البرتغال كانت حتى تاريخ الثورة تمتلك مستعمرات كثيرة نالت استقلالها بعد الثورة مباشرة ما أدى إلى عودة نصف مليون مواطن إلى البرتغال، إلا أن الذي تصدوا لعملية التغيير استطاعوا تحقيق الكثير من الإنجازات العظيمة أهمها التوافق على دستور جديد واجراء انتخابات وقانون أحزاب .......الخ. وهو ما لم يحصل على الاطلاق في الثورات المذكورة آنفاّ!
سادساً، لم تشهد هذه الثورة أي عملية انتقام ( اعدامات أو اغتيالات) لا من رجالات الحكم السابق ولا من أنصارهم. كما هو الحال مع كل الثورات أو الانقلابات.
سابعاً، لم ترهن نفسها لقوى خارجية أو تدخل سياسة المحاور ، كما أنها لم تعاد أحداً بل ركزت كل جهودها في إعادة بناء الدولة سياسياً واقتصادياً بعيداً عن الشعارات المخدرة والخطابات المخادعة.
جدير بالذكر بأن ظروف ومحفزات ومألات هذه الثورة تتشابه إلى حد كبير مع الثورة الروسية الأولى (شباط 1917) وليس مع ما يسمى بالثورة البلشفية في أكتوبر 1917!
التشابه الأول هو أن حرب المستعمرات التي خاضتها البرتغال قبل الثورة ونتائجها الكارثية كانت هي مصدر شرارتها، وبالمثل كانت كوارث الحرب العالمية الأولى التي دخلتها روسيا القيصرية الشرارة التي أشعلت ثورتها.
التشابه الثاني هو تلاحم قطاعات كبيرة من الجيش مع الشعب في كلتا الثورتين.
أما مالات الروسية الأولى فقد تشابهت فقط في البدايات مع هذه الثورة، إذ أن البلاشفة استولوا عليها في أكتوبر 1917 فنسفوا كل الجهود التي بُذلت من أجل وضع روسيا إلى سكة التحول إلى دولة مؤسسات بما تتضمنه من حرية صحافة وتشكيل أحزاب و برلمان.......الخ
بالمناسبة كانت هناك محاولة بعد نجاح ثورة القرنفل شبيهة بحركة البلاشفة من قبل اليسار المتطرف من أجل الاستيلاء على السلطة وتحويل البرتغال إلى دولة محكومة بأيديولوجية شمولية، لكنها لحسن حظ الشعب البرتغالي باءت بالفشل وإلا لكانت البرتغال قد أصحبت مثل كوبا أو كوريا الشمالية، دولة تدور في فلك الاتحاد السوفيتي!