تحديثات التنمية لأشكال الصراع الهندي/ الباكستاني
سامي داوود
خرجت الهند من دول الكومنولوث البريطاني سنة 1947، لتستقل بعدها بيوم واحد دولة باكستان التي دخلت مع الهند في حربا حدودية طاحنة. سرعان ما هرعت إليها الصين التي اقتطعت لنفسها جزءا من إقليم كشمير. تفاقمت معضلة كشميري المنقسمة دينيا إلى هويات متعارضة، لترتبط بقضية العنف والجماعات المتطرفة في كل من أفغانستان والعراق. فقد تداخل هذا الصراع مع الثقافة الشعبية المعززة لفكرة الجهاد ضد الكفار. وبالتالي، توفرت تغذية انفعالية للميول الاجتماعية والسياسات الأمنية المرتبطة بدعم الجماعات الجهادية كـ ( عسكر طيبة) في باكستان، ناهيك عن تحول هذا البلد إلى بيئة نموذجية لاستقطاب قيادات الإرهاب الدولي.
يشكل التداخل القبلي الحدودي بين باكستان وأفغانستان سندا لتأسيس الرؤى الجهادية وتعليلها شعبيا وشرعيا (رسالة أيمن الظواهري إلى القاعدة في العراق 2006) بمحاربة العدو غير المسلم.
باستثناء الردع النووي الذي يلجم حدود العنف بين الهند وباكستان، سار البلدان في سبل تنموية متعارضة. علما أن الجوع ظل حتى سنة 1971 سمة مشتركة لديهما، والذي خلق في غرب باكستان دولة جديدة هي بنغلادش التي ظهرت تقريبا دون معارضة. في الوقت الذي كانت المجاعة منتشرة في محيط كل مدينة هندية وصينية في نهاية الستينات من القرن المنصرم. طورت الهند سياساتها الزراعية ونسّقت مع العالم الأمريكي نورمان بورلاج ( نوبل للسلام 1970) الذي كان قد طوّر أبحاثه حول الذرة والقمح في المكسيك، بإضافة الطاقة الحيوية إلى البذور لمضاعفة كثافتها. الأمر الذي ساهم في توفير الخبز وإنقاذ حياة الملايين حول العالم. لم تتبنَّ الحكومة المكسيكية مشروع نورمان، فانتقلت المؤسسة إلى الهند ومنها إلى الصين، لتتحول هاتان الدولتان من دول تأكلها المجاعة، إلى دول مصدرة للحبوب.
وعلى الرغم من أن الفرق في تاريخ استقلال كل من الهند وباكستان هو يوم واحد فقط، إلا أن السياسة الثقافية و اللغوية التي تبنتها الدولتان، أثمرت نظامين مختلفين جذريا. فكلمة باكستان تعني بلد الطهارة. هذه الفكرة المحصنة بهيمنة المؤسسة العسكرية على بنية الدولة منذ تأسيسها. تحللت عمليا إلى واقع منقسم ثقافيا وإلى تعارض في الميول الاجتماعية، خصوصا في الأقاليم الحدودية مع أفغانستان والهند. وهي نفسها الأقاليم التي تنشط فيها الأجندات الأجنبية للدول التي تغذي وتستفيد من الحركات الجهادية المعادية لكل من الهند وأمريكا.
قالت هيومن رايتس ووتش في تقرير لها حول التعليم في باكستان سنة (1)2018. بأن 22،5 مليون طفلا لا يذهبون إلى المدرسة في باكستان التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 200 مليون نسمة. يأتي ذلك في ظل انهيار الاقتصاد الباكستاني القائم منذ 2010 على الديون الخارجية ودعم الدول الخليجية لها. وهذه هي الظروف الأمثل لتعويم التطرف والاستثمار في الجهل والعوز الجماعي عبر الأفكار الخرافية تحت مسميات دينية أو حتى قومية.
عبر ثغرتي الفساد وغياب التنمية، ظهرت بدائل الدولة الباكستانية في باكستان. أي القوى المحلية المجندة بالمال من قبل دول أخرى، والمدعومة بالجهل الذي يوفر للتطرف رأسماله البشري لتشتغل دارة العنف المغلقة. ومنها يبدأ استثمار الدول الأخرى في المجموعات الجهادية الباكستانية، ضمنها تركيا التي صرح رئيسها أردوغان أمام البرلمان الباكستاني بأن قضية كشمير تهم تركيا بالدرجة ذاتها التي تهم باكستان.(2) وقد تُرجم ذلك الدعم إلى هجوم إعلامي مكثف ضد الهند من قبل الإعلام الحكومي التركي، الذي بات ـ متذرعا بشماعة الدين ـ ينتقد كل دولة عربية عملت على التعاون مع الهند في مجال الاستثمار في إقليم كشمير.(3).
لتركيا علاقة وثيقة مع حركة طالبان الأفغانية. أوضحتها الكلمة التي ألقاها أحد كبار مسؤولي حركة طالبان في مؤتمر العلماء المسلمين الذي نظمته تركيا في مدينة ديار بكر( إكتوبر 2022).(4). ولديها علاقات عميقة مع الحركات الجهادية في العالم، بينها الحركات الجهادية الناشطة في إقليمي البنجاب وكشمير.
في المقابل باتت الهند الدولة الأكثر سكانا في العالم سنة 2022، بعدد ٍ تجاوز الـ مليار وأربعمئة مليون نسمة. متفوقة بذلك على غريمتها الصين التي أعلنت حكومتها عن تراجع في الولادات بلغ 850 ألف نقصا مقارنة بسنة 2021. ووفق مركز الأبحاث البريطاني World Population Review (5) أصبحت الهند خامس أقوى اقتصاد في العالم منذ سنة 2020، متفوقة بذلك على بريطانيا التي كانت تستعمرها. وتطمح الهند لأن تصبح ثالث أكبر اقتصاد في غضون خمس سنوات من الآن.علما أن المتوسط في الانتاج الوطني الهندي قارب الـ 8 بالمئة، فيما تراجع النمو في الاقتصاد الصيني إلى حدود الـ 4% لسنة 2022.
صرح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بأن الأيكولوجيا الزراعية هي مستقبل الهند. وقد ساهم روث الأبقار في تغذية هذا التوجه العضوي في الزراعة، لتبدأ الثورة الخضراء الثانية في مقاطعات هندية كثيرة، ساهمت بدورها في إعادة الهيكلية الاجتماعية والتوزيع الديموغرافي بين المدن والريف. وضاعفت من قدرة الناس على تمويل المسار العلمي لأولادهم. الأمر الذي ساهم في زيادة عدد خريجي الجامعة الحاصلين على شهادات الدكتوراه في مختلف المجالات، خصوصا في العلوم الرقمية والهندسات. مما أوفد المزيد من الخبراء الهنود إلى الدول الخليجية القريبة، وضاعف التحويلات المالية بالعملات الأجنبية. ناهيك عن التطور الهائل في نجاح الشركات الصغيرة. إذ باتت الهند منذ 2015 تحتل المرتبة الثالثة بعد أمريكا والصين من حيث عدد أصحاب المليارات، يقابلها تهرب ضريبي يصل إلى 500 مليار دولار سنويا. وبات الثراء بدوره يساهم في إعادة صياغة الهند الجديدة.
تأتي وضعية الهند الجديدية معززة بالتحولات الجذرية في السياسة الدولية المأخوذة بماراثون التسليح العالمي. إذ خرجت الهند بموقف منفرد في أزمتي كوفيد19 والحرب الأوكرانية. غير أن الأهم بالنسبة إلى الهند هو نزاعها الحدودي المستمر مع الجارتين النوويتين الصين وباكستان. فقضية كشمير ظلت رغم الاتفاقات البينية منذ سنة 1949 وإلى الهجمات الإرهابية 2008/ ومومباي 2011، ظلت قضية معلقة دون حل. بل وباتت إمارة كشمير هي المنطقة الأكثر تسليحا في العالم. فليست باكستان وحدها من تتقاسم الإمارة مع الهند، بل والصين أيضا، التي لديها حرب قديمة مع الهند، حيث كانت هذه الأخيرة متفوقة قتاليا على الجيش الصيني في مناطق الهيمالايا، إلى أن لجأت الصين إلى سلاح الماكرويف المعروف بـ "متلازمة هافانا"، بعد أن طورت نسخة جديدة من الأسلحة الكهروـ مغناطيسية غير القاتلة، لكنها تحدث شللا في الأعضاء، أو كما صرح جين كانرونج – Jin Canrong، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رينمين – Renmin في بكين :“لقد حولنا قمم الجبل إلى ميكروويف ضخم، وقمنا بطهي الهنود”. (6). وهكذا تحايلت الصين على اتفاقها الحدودي مع الهند بعدم استخدام الأسلحة الفتاكة، واستبدلتها بالأسلحة المُشلة.
ساهم ذلك في تعقيد الملفات الأمنية وكذلك في منح الهند تموقعا غريبا في السياسة الدولية. فقد كانت سياسة الهند منذ استقلالها 1947، هي سياسة عدم الانحياز المتأثرة بأفكار أول رئيس وزراء لها جواهر لال نهرو. لكنها عضو أيضا في منظمة شنغهاي التي أسستها غريمتها الصين مع روسيا لإدارة الملفات الأمنية في آسيا الوسطى. وعلى الرغم من كون روسيا المورد الأساسي للسلاح الهندي ، إلا أن فرنسا أخذت مؤخرا تلك المكانة عبر صفقة ضخمة لشراء طيارات رافال الحديثة وبعض الغواصات. كما تقدم رئيس الوزراء الحالي "مودي" بسياسة جديدة للهند، هي سياسة "الاصطفاف المتعدد". الأمر الذي أظهر موقفا مستقلا من حليفه الأمريكي حيال الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
فالعامل الديموغرافي يستمر في التأثير على المكانة الاقتصادية والعسكرية للدول المؤثرة في النزاعات الدولية اليوم. آسيا تملك الحصة الأكبر من الكثافة السكانية في العالم. ودولها مختلفة عن الدول الإفريقية التي تأتي في المرتبة الثانية حاليا، لكنها مشتتة بإحكام كولونيالي يتم تحديثه باستمرار لإدامة تفككها. وهكذا، سيكون العالم متعدد الأقطاب اليوم، موزعا بين الغرب الأوربي والأمريكي الشمالي.، و بين روسيا النووية، والصين الاقتصادية والنووية، والهند الصاعدة اقتصاديا وعسكريا أيضا، الداخلة في حلف يجمعها بغرمائها الآسيويين. أي حلف بريكس BRICS الذي أعلن من روسيا تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية سنة 2009. غير أن العالم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لن يبقى ثنائي القطبية، بل سيتحول إلى تعددية قطبية، تحكمها أزمات الأمن الغذائي و الاقتصادي، ومأخوذة بهوس العسكرة الذي بثه حاكم الكرملين في العالم.
يؤدي العامل الديموغرافي في باكستان الغارقة في الديون، بمؤسستها العسكرية الصلبة، وهشاشتها الإدارية والخدمية، إلى تغذية العنف الموجه بالشعارات الدينية والثقافة القبلية المتأصلة في بنى اجتماعية مناقضة لفكرة الدولة بباكستان، ومتواطئة في الوقت ذاته مع الأجهزة الأمنية فيها. الأمر الذي قد ينعكس على المدى المنظور إلى وفرة جهادية قابلة للتصدير إلى صراعات إقليمية أخرى. وربما إلى استنساخ باكستان في دولة أخرى مؤهلة لهذه الوظيفة، وموجودة على البحر المتوسط.
هوامش:
1ـ https://www.hrw.org/ar/news/2018/11/12/323980
2ـ https://cutt.ly/b93efgi
3ـ https://cutt.ly/U93eYxr
4ـ https://cutt.ly/i93e5BO
5ـ
6ـ متلازمة هافانا على الرابط التالي:
https://sitainstitute.com/?p=12489