الستار الحديدي لـ ڤيننا
كيفورك خاتون وانيس
مضى حوالى عام على الغزو الروسي الأخير ولا زال الجدل دائراً حول مسألة المحرك الرئيسي؛ أي هل كانت نية أوكرانيا في الانضمام إلى حلف الناتو وما يترتب عليه من تهديد للأمن القومي الروسي هي السبب المباشر والأساسي الذي دفع روسيا إلى شن الحرب عليها؟
الملفت في هذه الجدالات التي تحاول الإجابة عن هذا السؤال هو اعتماد أغلبها على التحليل الجيوسياسي والتحركات التي سبقت الحدث مباشرةً، وندرة مقاربة المسألة، سواء من الطرف المقتنع بهذه الإجابة أو الرافض لها، استناداً على دراسة عقلية ونهج القوى العظمى القائم على توسيع مناطق النفوذ والسيطرة السياسية والاقتصادية
باستخدام كل الوسائل وتحت مختلف الذرائع والحجج؛ وهو حال كل الامبراطوريات على مر العصور بمختلف أنظمة حكمها.
ورغم قلة تناول هذا الجانب، إلا أن الطرف غير المقتنع لجأ أكثر من الطرف الآخر إلى شواهد تاريخية تدعم عدم اقتناعه بهذا السبب؛ فعلى سبيل المثال تم في هذا السياق استحضار غزو أفغانستان 1979 وغزو جورجيا 2008 وضم القرم 2014 وقبلهما غزو فنلندا 1939(التي تم تناوله من قبل كاتب هذه الاسطر في مقال سابق )
وغزو بولندا 1939 (بعد المعاهدة السرية بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية 1939 لتقاسمها)، كدلائل على مشاريع توسيع مناطق النفوذ والهيمنة السوفيتية/ الروسية باستخدام ذرائع لا تختلف إلا في المسميات عن تلك التي استخدمتها الولايات المتحدة في غزواتها ومشاريعها التوسعية.
لذلك يتناول هذا المقال معاهدة استقلال النمسا 1955 التي تبدو للوهلة الأولى مثالاً دامغاً يمكن أن يُستخدم من قبل المقتنعين بحجة الانضمام إلى حلف الناتو في التأكيد على صحة الإجابة عن سؤال السبب الرئيسي للغزو.
وفقاً لهذه المعاهدة غادرت قوات الدول الأربعة (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، الاتحاد السوفيتي) التي كانت تتقاسم السيطرة على النمسا لمدة عشرة سنوات (1945-1955)، الأراضي النمساوية وحصلت النمسا بموجبها على الاعتراف بها، كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية، دولة مستقلة ونجت بالتالي من المصير الذي واجهته ألمانيا،
وأصبحت في الطرف الثاني من الستار الحديدي (مصطلح استُخدم لوصف الحد الفاصل بين أوروبا الغربية ودول ما سمي بالمعسكر الاشتراكي).
أهم بند في هذه المعاهدة هو موافقة الاتحاد السوفيتي ـ على غير العادة) التخلي عن النمسا سلمياً والقبول بخروجها من دائرة نفوذها الإيديولوجي(على غير العادة أيضاً)، إذ أن الستار الحديدي كان على بُعد 35 كم فقط من فيينا!
تذكر أغلب المراجع والدراسات بأن شرط الاتحاد السوفيتي للتوقيع على تلك المعاهدة كان تعهد النمسا بعدم الانضمام إلى حلف الناتو، الأمر الذي يجعل منه إثباتاً ملموساً يمكن يستخدمه المقتنعون بالذريعة التي ساقتها روسيا في غزوها الأخير، في تأكيد ما ذهبوا إليه بأنه لو قدّمت أوكرانيا (قبل الغزو) وحلفاؤها نفس الضمانات التي قدّمتها النمسا في 1955
لما قامت روسيا بشن الحرب عليها!
طالما أن المعاهدة المذكورة وثيقة مثبتة والشرط كذلك، دعونا نستعرض في عجالة الظروف التي سبقت وقادت إلى اتخاذ القرار ودوافعه. والأهم من هذا وذاك، تناقض هذا الانسحاب السوفيتي السلمي من النمسا في 1955 مع غزوها لجارتها هنغاريا 1956!
أولاً وقبل كل شيء، تأسس حلف الناتو في 1949 أي بعد مضي حوالى 4 سنوات على الاحتلال السوفيتي للنمسا ومع ذلك لم تذكر المراجع أي توجه أو تحرك لدى القيادة السوفيتية بالتخلي عن النمسا، لا بل على العكس فقد أقدمت بعد دخولها النمسا مباشرة(أقل من شهر) على تشكيل حكومة دمى من "رفاقهم" على غرار حكومات المعسكر الشرقي مما يدلل على نيتها في إدخال النمسا ضمن دائرة نفوذها!
لم تلق حكومة الدمى أي قبول ولم تتمكن من الاستمرار إلا بضعة أشهر، لذلك جرت أول انتخابات عامة في النمسا في نهاية 1945، فحصل الحزب الشيوعي النمساوي على 5% فقط من الأصوات بينما حصل تحالف الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي على 90%. الأمر الذي يدل على عدم حصول السوفييت على تأييد أو تقبّل من قبل الشعب النمساوي!
(على عكس ما حدث في تشيكوسلوفاكيا حيث حصل الحزب الشيوعي فيها على أكبر نسبة أصوات في أول انتخابات عامة شهدتها بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل توقيع فرنسا وبريطانيا على معاهدة ميونيخ 1938 التي بموجبها مُنح هتلر الحق في احتلال جزء من تشيكوسلوفاكيا )!
لا يذكر أي مرجع أو مصدر بأن حكومة الاتحاد السوفيتي قد طرحت طيلة الثماني سنوات الأولى(حتى موت ستالين 1953) مسألة الانسحاب (بشروط أو بدون ) للتفاوض أو قبلت النقاش فيه لا مع النمسا ولا مع قوات الحلفاء التي تتقاسم معها إدارة هذه الدولة.
بعد وفاة ستالين وتحوّل القيادة في البداية من فردية إلى جماعية (بعد سلسلة تصفيات دموية بين أعضاء القيادة)، أقدمت هذه القيادة على سلسلة إجراءات واتخذت خطوات كانت على الضد تماماً من النهج الستاليني تصلح للاستهلاك الداخلي وتهدف تخفيف التوتر مع الغرب بغية الإمساك بالسلطة؛ فكان من ضمنها إعاة النظرفي موضوع تواجدها في النمسا وجدوى الإصرار
على ضمها إلى معسكرها بعد عشرة سنوات من التعثر والفشل في إحراز أي تقدم بعد استنفاذ كل الوسائل، بالإضافة إلى نفاذ موارد المنطقة التي كانت تتواجد فيها القوات السوفيتية!
هذا بالإضافة إلى التحديات الغربية المباشرة للسلطة السوفييتية في ألمانيا المحتلة التي كان لها أثر كبير في مضاعفة السوفييت لتواجدها في برلين وألمانيا الشرقية، وبالتالي التخلي عن أي طموح أو نفوذ في النمسا.
كل هذه الظروف وأهمها فشل كل محاولاتها في سحب النمسا إلى الجهة الثانية من الستار الحديدي ووضعها تحت نفوذها، أرغمت القيادة السوفيتية على مغادرة النمسا. لكنها، كعادة كل الأنظمة الشمولية التي لا تعترف بالفشل أو الهزيمة، بحثت عن طريقة تحفظ لها "ماء وجهها" وتهرب بها من الاستحقاقات الداخلية وتساعدها في الامساك بالسلطة فلم تجد غير هذا الشرط الخُلبي.
جدير بالذكر هنا بأن النمسا مازالت حتى يومنا هذا ترفض الانضمام إلى حلف الناتو رغم كل المتغيرات الدولية ومرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الاتحاد السوفيتي!
أما حجة تهديد الأمن القومي الروسي في حال انضمام دولة حدودية إلى حلف الناتو، فها قد مضى حوالى 20 عاماً على انضمام دول البلطيق الثلاثة المجاورة لروسيا، إلى حلف الناتو ومع ذلك لم نسمع بهذه الحجة أو نشهد أي محالة روسية لغزوها والأهم من هذا وذاك لم يقم الناتو بأي عملية في هذه الدول من شأنها تهديد الأمن القومي الروسي!