الانعطافة التركية نحو سوريا: الانعطاف نحو ماذا ومن أجل ماذا؟
كمال شاهين / آسو
يحتاج فهم الموقف السياسي التركي اﻷخير تجاه دمشق، والذي يمكن توصيف بأنه "انعطاف" سياسي، إلى هدوء وحذر وعدم تسرع، وربما أيضاً الابتعاد عن التفاسير الجاهزة أمام المتابع العادي. ليس هذا فقط ﻷن الحدث على مستوى عال من الأهمية والفُجاءة، بل ﻷنه في حال استكماله وصولاً إلى التطبيع الكامل بين البلدين،
ستترك نتائجه المستقبلية آثاراً حاسمة في الملفات السورية واﻹقليمية المرتبطة وحتى على المستوى الدولي.
نحن في الانعطاف التركي اﻷخير مع دمشق أمام استغراب كبير ناتج عن مجمل (أوضاع) العلاقة السورية التركية، المقطوعة رسمياً منذ العام 2011 والتي تحوّلت من شراكة استراتيجية حتى ذلك العام إلى قطيعة منجزة سياسياً بين نظامي الحكم في البلدين، ثم إلى حرب ضروس معلنة، لتعود فجأة ودون مقدمات، وتتصدر العناوين الرئيسية للأخبار على أنها في طريقها إلى "التطبيع الكامل".
ما يزيد الاستغراب من الدعوة التركية للانفتاح على دمشق، أنّ ميزان القوى بين البلدين ليس في صالح دمشق، الحلقة اﻷضعف في هذا التحول، إلى درجة تبدو معها الانعطافة التركية وكأنها هدية سماوية لنظام يبحث عن الحد اﻷدنى من القبول السياسي، دولياً وإقليمياً، وأن دمشق هي المستفيد اﻷكبر منها، بنفس الوقت الذي تبدو فيه تركيا في حالة اندفاع نحو "المصالحة"، ويبدو موقفها وكأنه
أقل وزناً سياسياً من موقف دمشق الحذرة حتى اﻵن في قبول العرض التركي.
هل الانعطاف "الدائم" خاصية تركية؟
ليست الانعطافات في المواقف السياسية للدول أمراً مستغرباً أو لا تحدث في السياسات الإقليمية ـ أو الدولية، إذ أنّ "التطبيع" Normalization، هو من عناصر السياسة المحتملة دائماً بين الدول، ودائماً ما تجد الدول، بما هي كيانات فوق عاطفية في الغالب، طرقاً متعددة للتنصّل والالتفاف على مواقف سابقة باتت تراها في لحظتها الراهنة خطأ أو
عائقاً ضد مصالحها الراهنة، ففي السياسة، كما قال أبرز قادة السياسة الواقعية في التاريخ المعاصر، ونستون تشرشل، "ليس هناك عدو دائم ولا صديق دائم، ولكن هناك مصالح دائمة"، وهناك الكثير من اﻷمثلة على هذه الانعطافات، أشهرها حديثاً، زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى "إسرائيل" بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 وإقامة علاقات "طبيعية" بين القاهرة وتل أبيب، وهي الزيارة ـ العلاقات
التي غيّرت وجه الشرق اﻷوسط إلى الأبد.
ما يدفع للانعطاف السياسي أسبابٌ كثيرة، إذ قد يجد صاحب أو مؤسسات القرار السياسي، أن المعطيات بشأن موقف أو قضية قد تغيرت خارج رغبته أو إرادته، والمعطيات هنا قد تكون معلومات (استخباراتية أو غيرها) عن توافقات فعلها شركاء أو أعداء بغير علمه، أو انفكاكات لتوافقات ثبتت المشهد السياسي فترات معينة، وبالطبع، يعني هذا بمنطق براغماتي، أنّ لا مواقف ثابتة في السياسة.
تركيا واحدة من أكثر الدول التي يصح عليها ما سبق، مضافاً له عوامل أخرى موضوعية مرتبطة بالجغرافيا، وأخرى "ذاتية" مرتبطة بنوعية أنظمة الحكم فيها، وخاصة خلال عهد حزب العدالة والتنمية الذي شهد فعلياً عشرات "الانعطافات" السياسية وإنْ تلبست مرات عديدة صبغة "المواقف الثابتة" أو المبدئية، وهذه كانت أكثر استخداماً في مرحلة التوجه التركي نحو العالم اﻹسلامي بعد فشل الاندماج الكامل
مع الاتحاد اﻷوروبي من العام 1995 حتى الوقت الراهن.
ما يمكن وصف "الانعطافات" التركية به هو كونها "فعلاً" وليست "ردّ فعل"، وفي كثير منها كانت تركيا مبادرة للقيام بهذه الانعطافات، وعلى سبيل المثال، اكتسى الموقف التركي من مسألة الغزو الروسي ﻷوكرانيا عدة انعطافات صبّت في منطق تحييد تركيا عن الانغماس المباشر بالموقف الغربي وحماية نفسها من الغضب الروسي المحتمل، وثالثاً في منطق الاستفادة من هذه الحرب عبر بيع المسيّرات
إلى أوكرانيا ـ واﻷخيرة هي من يزوّد تركيا حتى وقت قريب بمحرّكات المسيرات المنتجة في تركيا ـ وهذا كله ضمن المقولة الشهيرة للدول التي تريد الهرب من اتخاذ موقف معلن من أمر ما فتقول بضرورة "تطبيق قرارات الشرعية الدولية وتطبيق معايير اﻷمم المتحدة".
إقليمياً ودولياً، ليس هناك من موجبات لتركيا العدالة والتنمية (الكتلة الحاكمة مع الحركة القومية) كي تغيّر موقفها تجاه سوريا، حتى لو سلّمنا بوجود ضغوط عربية مؤثرة ـ إماراتية بالدرجة اﻷولى، حيث أنّ المشهد التركي في اﻹقليم لا يعاني من مشاكل مؤثرة على موضعها وموقفها السياسي والعسكري خارجياً، آخذين بالاعتبار أنّ دمشق هي التي تعيش مجموعة واسعة من اﻷزمات مع اﻹقليم وداخلياً،
فليس هناك قبول بنظامها السياسي لدى الجوار المؤثر ولا عربياً ـ حتى اﻵن ـ وأما دولياً، فهي وشريكتها روسيا تعيشان الإقصاء الغربي ومعه اﻷممي عبر العقوبات الغربية وعزلةً متشابهة عن المحيط الدولي.
نتصور أنّ موجبات الانعطاف التركي، وسنرى مدى هذا الانعطاف لاحقاً، تكمن بشكل مفصلي في المستحقات الداخلية للكتلة الحاكمة وأهمها بالمطلق الانتخابات الرئاسية القادمة صيف هذا العام، وهي تضم في جعبتها بقية المسائل التركية اﻷخرى، الاقتصادية والسياسية، ومنها موقف المعارضة من الملفات السورية، ولكل من هذه العوامل دوره في الدفع بنسبة ما نحو انعطافة تركية نحو دمشق.
أردوغان حين يقرر الانعطاف، من يمنعه؟
الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي بات موعدها بشكل شبه رسمي في 14 أيار / مايو بتقديم شهرين على موعدها اﻷصلي (تموز) هو استحقاق مفصلي للكتلة الحاكمة في البلاد، وهو كذلك بالضرورة للمعارضة، وهذا الاستحقاق بالغ اﻷهمية بالنظر إلى تردي الوضع الاقتصادي وانهيار الليرة المتتابع والتضخم المستمر منذ سنوات، والذي زاد منذ آخر انتخابات أجريت العام 2018.
أما بالنسبة للرئيس أردوغان، فإنّ الاستحقاق القادم هو الاستحقاق الثاني واﻷخير الذي يحق له بموجبه قيادة تركيا بموجب الدستور الرئاسي الحالي الذي أُقِرّ نتيجة استفتاء نيسان/أبريل 2017 والذي يحصر ولاية الرئيس بفترتين انتخابيتين فقط، والفترة الثانية ﻷردوغان فيما لو تمت، ستكون ذات أهمية خاصة، ﻷنها بداية المئوية الثانية للجمهورية التركية حيث ستحتفل تركيا في خريف العام الحالي
بالمئوية اﻷولى، بعد أشهر قليلة من نهاية الاستحقاق الانتخابي، ومن المهم ﻷردوغان أن يكون عرّاب ختامها وانطلاقتها، تشبهاً بالمؤسس كمال أتاتورك، ولذلك فقد كان شعاره الانتخابي في حملته الرئاسية "القرن التركي".
من المهم معرفة هذه التفاصيل ﻷنها تقودنا مباشرة إلى فهم التحول التركي من الملف السوري، فالمهم واﻷهم جداً ﻷردوغان أن يكون حاضراً على رأس المئوية الثانية، فهذه الانتخابات سوف ترسم وجه تركيا القادم، ومن الضروري التوجه إلى الانتخابات بأكبر قدر ممكن من الملفات الداعمة لنجاح الرئيس وحزبه فيها.
المعارضة التركية حاولت عبر إعلامها ومنصاتها تحويل الملف السوري إلى ورقة أساسية في هذه الانتخابات، معتبرة أن السلطة "فشلت في إدارة هذا الملف"، وخاصة مع بروز تيارات شعبوية متصاعدة في تركيا تميل إلى تحويل اللاجئين السوريين في تركيا وزر المشاكل الاقتصادية، ومنها بعض التيارات المحسوبة على التيارات العلمانية مثل حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية معاً،
ويمكن ملاحظة ذلك م ارتفاع مستويات العنف ضد اللاجئين السوريين في تركيا السنوات اﻷخيرة، والتحول من وضعية "ضيوف مرحب بهم" إلى وضعية "غير مرغوب فيهم".
المسألة السورية في الشارع التركي اليوم هي إحدى اﻷوراق اﻷبرز التي تقدمها المعارضة للأتراك على أنّ حلها (الانفتاح على دمشق وترحيل اللاجئين) سوف يساعد في تغيير الوضع الاقتصادي التركي، بالطبع، إلى جانب ملفات داخلية أخرى (العودة للنظام البرلماني بدل الرئاسي أحدها)، ولم يكن متوقعاً من "الكابتن" وكتلته الحاكمة أن يتركا هذه الورقة للاحتمالات غير المحسوبة،
خاصة أنّ الكتلة اﻷكثر اهتماماً بالانتخابات هي أجيال شابة متأثرة فعلاً بالوضع الاقتصادي في البلاد، وإلى جوارهم فئة الموظفين الحكوميين اﻷكثر تضرراً من التضخم المالي وانهيار الليرة المتتابع (وصلت إلى 18 ليرة مقابل الدولار).
تركيز المعارضة على الملف السوري، يأتي في وقت تشهد فيه أحزابها الستة تناقضات كبيرة، ويشير بيان السياسات المشتركة للطاولة السداسية لهذه اﻷحزاب ـ صدر في نهاية كانون الثاني 2023 ـ إلى ضعف في طرحها الانتخابي الداخلي، فعلى سبيل المثال هناك بند فيها يقول (بخفض الطائرات الرئاسية) وآخر
(فتح قصور الرئاسة لزيارات المواطنين)، وحتى اﻵن لم يُتفق على مرشح واحد مشترك للمعارضة، ولو أنه من الصعب حدوث ذلك، كما أن هذه اﻷحزاب لم تذكر شيئاً عن الملف السوري في بيانها، ربما ﻷن الورقة السورية قد تم سحبها منها بنجاح.
أمام هذا الوضع التركي الداخلي، غير المقلق كثيراً ﻷردوغان، كان من الضروري الاستثمار في الملف السوري، وإرسال رسائل معلنة أنّ النظام في تركيا لا يقف عقبة أمام الحل في سوريا، وبوجود ضغوط عربية (إماراتية واضحة مع وديعة مالية بقيمة مليار دولار)، كان من المناسب إطلاق شرارة التحول في
الموقف دون المضي خطوة أبعد، حيث من الممكن التراجع في أية لحظة، ربما بعد الانتخابات الرئاسية.
موقف دمشق: يتمنعن وهن راغبات؟
هذه المعطيات جعلت دمشق تتعاطى بحذر مع هذه التحولات المعلنة بشكل مفاجئ، ومنها تصريح الرئيس أردوغان عن استعداده لقاء الرئيس السوري بحضور الرئيس بوتين، ثم التسارع في عقد لقاءات على مستوى وزراء الدفاع للبلدان الثلاثة وصولاً إلى ترتيبات لوجستية على أرض الواقع.
حتى اﻵن، تتعاطى دمشق ـ في العلن ـ مع الانعطافة التركية وكأنها ليست بحاجة لها، وليست مستعجلة عليها، وهي من يقرر مستقبلها (أو هكذا هو اﻹيحاء) وليس أنقرة، ممارسةً نوعاً من "الثقل السياسي" في التعاطي مع الانعطافة يُظهر الموقف التركي وكأنه أقلّ وزناً من موقف دمشق التي رفضت التواصل مع أنقرة ﻷشهر.
تدرك دمشق بوضوح أنّ الانعطافة التركية (غير بريئة) كعادتها، وإنْ كان لا بد من الاستماع إلى بنودها والمضي معها بشروطها هي إنْ استطاعت، وهذا صعب رغم وجود الضامن الداعم لدمشق منذ سنوات، أي موسكو، ولاحقاً طهران، وبشكل ما، يمكن فهم لماذا وضعت دمشق شروطاً عالية السوية لقبول الانعطافة التركية، فهي لا تختبر جدّية الموقف التركي الجديد فقط،
بل وتنأى بنفسها عن الصراع الداخلي التركي، وعن استخدامها ورقةً في هذا الصراع السياسي، مع أّن مصلحتها الواضحة هي مع المعارضة، إلا أنها هنا أيضاً نأت بنفسها مرة ثانية.
دمشق، خارج المعلن، بدأت سلسلة اجتماعات مع قيادات استخبارتية تركية ركّزت على الملفات الممكن أن تثبت صدق التوجه التركي، فكان الطلب اﻷسهل واﻷهم لها ـ لدمشق ـ فتح الطريق الدولي (M4) بين حلب واللاذقية، وهو ما يحدث اﻵن حيث تسلمّت القوات التركية والروسية والسورية إدارة الطريق تقريباً، بعد أوامر تركية لهيئة تحرير الشام للانسحاب من مواقعها على الطريق،
ومن المتوقع افتتاح الطريق الشهر القادم، أما الخطوة التالية فهي مؤجلة لما بعد لقاء وزيري خارجية البلدين غير المحدد موعده بدقة.
مدى الانعطافة التركية واحتمال العكس؟
هل من الممكن ﻷنقرة أن تقلب ظهرها مرة ثانية وتذهب في اتجاه القطيعة؟ من الممكن ذلك ببساطة، فعلى الرغم من كل الموجبات السابقة، فإنّ الممر الحاسم سيكون الانتخابات الرئاسية التي اقترب موعدها، وعليه، فإنّ عبور الانتخابات والنجاح في تثبيت ولاية ثانية للرئيس أردوغان، سيجعل من جديد، موجبات الانعطاف نحو دمشق، أقلّ أهمية، وسيكون الانعطاف التركي مجرد فقاعة
انتخابية تم استخدامها بنجاح مع الشارع التركي، ولا بأس، بتحميل دمشق المسؤولية عبر رفضها مثلاً بقاء نقاط المراقبة التركية، أو دمج ميلشيات المعارضة المسلحة في الجيش السوري، أو ليكن البند الأهم من الشروط التركية للانفتاح على دمشق، أي حرب دمشق مع اﻹدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقواتها العسكرية وإنهاء وجود اﻹدارة وقواتها، وهو مطلب تركي رئيسي وحاسم.
يمكن أيضاً، الاستمرار في هذا السيناريو، أي سيناريو الانفتاح، عبر فتح الملفات الأقل سخونة حالياً واﻷكثر ضرورة لتركيا ـ لا لدمشق ـ مثل ملف اللاجئين، ووفق معلومات واردة من مصادر استخباراتية من دمشق، فهذا الملف فتح، وهناك ترتيبات لعودة سوريين من المخيمات ممن ليسوا مطلوبين أمنياً وذلك عبر معبر كسب الحدودي، والعدد التقديري يصل إلى مئة ألف فأكثر وبالتدريج.
على ما يظهر حتى اﻵن، فإنّ قطار الانعطافة التركية قد انطلق نحو دمشق، ولكن هناك أمامه عشرات المعوقات الكابحة، لكنّ أكثرها خطورةً وحسماً، ملف الحل السياسي الذي يشك أن تقبل به دمشق ولو أنه مرتكز على القرار الدولي 2245، والملف الثاني، هو الملف الكردي، وهذا اﻷخير، يمكن له أن يعيد القطيعة بين البلدين إلى نقطة الصفر، ولذلك، فإنّ على دمشق، كما على قيادات اﻹدارة الذاتية،
إدراك أن طريق دمشق ـ عين عيسى أقرب من طريق دمشق ـ أنقرة.