الزلزال: حين لم يُترك السوريون وحدهم

الزلزال: حين لم يُترك السوريون وحدهم

داريوس درويش

خلف زلزال 6 شباط في تركيا وسوريا حتى الآن أكثر من 40 ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى والمصابين عبر الحدود بين الدولتين. وفيما كان لتركيا الحصة الأكبر من عدد الضحايا، إلا أن النصيب الأكبر من المأساة كان في سوريا التي خلف الزلزال فيها أكثر من 5 ملايين فرد دون مأوى في بلد دون حكومة مسؤولة، وتتقاسمه الحرب وأمراؤها.

تتضاعف المأساة حين لا يكون ثمة سبيل أمام الناجين من الزلزال النجاة من آثارها. يملك الأتراك والسوريون في تركيا رفاهية الحزن على موتاهم في بيوت أقاربهم في المدن الأخرى، أو، في أسوأ الأحوال، في خيمة دافئة عقب وجبة دافئة ورأفة المتطوعين والمتطوعات بهم بعد إغداقهم بالمساعدات الحكومية والدولية. إلا أن سوريو الداخل ليس لهم من هذه الرفاهية نصيب، إنما نصيبهم هو في العذاب المديد بعد الزلزال: عذاب موت أهاليهم وجيرانهم، عذاب من عجزت أيديهم عن إنقاذ العالقين تحت الأنقاض، عذاب البرد والتشرد والجوع، وعذاب المنبوذين والمحاصرين الذين يعتقدون أن لا أحد يأبه بهم. الأمرّ من ذلك أن النبذ والحصار هو من فعل أبنائهم وليس من فعل أحد آخر.

أفعال وتصرفات ميليشيات المعارضة هي ما تخلق هذا الشعور. إذ ما معنى أن تمنع مساعدات الإدارة الذاتية من الدخول إلى المناطق المتضررة ومن إغاثة المتضررين جراء الزلزال، فيما أهالي تلك المناطق بأمس الحاجة إلى كل كسرة خبز أو نقطة وقود؟ صحيح أن هذا المنع يوجع الإدارة الذاتية وأهالي شمال شرقي سوريا الذين حرموا من مساعدة أهاليهم في غرب البلاد، إلا أن العقوبة الأكبر هي ما تنزله هذه الميليشيات بمنكوبي الزلزال عبر حرمانهم من المأوى والطعام والدفء. كانت تلك المساعدات لتصل العرب والكرد على السواء، والمستوطنين والسكان الأصليين على السواء، إلا أن الميليشيات اختارت إيقافها، دون أي اعتبار لحاجة المنكوبين.

تركيا التي أوعزت إلى الميليشيات التابعة لها الاستغناء عن تلك المساعدات ومنعها من الدخول إلى مناطق سيطرتهم بحجة الخلافات السياسية مع الإدارة الذاتية، لم تتوانَ هي نفسها، في نفاق واضح، عن استقبال المساعدات من كل البلاد التي هي على خلاف معها، كتلقيها المعونة وفرق الإنقاذ من اليونان وأرمينيا، بل وإسرائيل التي شكرتها بشكل مميز، بعكس إيران مثلاً التي بدت أكثر اتساقاً مع سياستها المتصلبة حين رفضت المساعدات الأمريكية عقب زلزال 2012. ورغم ظهور بعض الأصوات الرافضة لهذا المنع بين أوساط المعارضة السياسية والشعبية، إلا أن أصواتهم ووجهت ببيان من رئيس الحكومة المؤقتة يعلن تلقيهم "كل الدعم والمساعدة المطلوبة من جانب الدولة التركية" بما يغنيهم عن مساعدة أشقائهم السوريين، كما يفهم من البيان، أيضاً دون أي اعتبار لحاجة المنكوبين السوريين الماسة لكل مساعدة ممكنة.

إلا أن الحلقة الأسوأ من إمعان الميليشيات وتركيا في زيادة عذابات السوريين لم تعرض بعد. ففيما ينظر العالم والسوريون العاديون للزلزال على أنها كارثة تجب مواجهة تبعاتها، يفرك عناصر الميليشيات أيديهم بانتظار المساعدات الدولية لسوريا بعد إتخام تركيا بها، وذلك بوصفها "باب رزق" جديد سيفتح على مصراعيه أمامهم، وقد بدأت باستغلاله بالفعل وفق الشهادات المحلية التي يحفل بها الانترنت عن سرقة المساعدات والتمييز في توزيعها في الشمال المنكوب. كذلك، ما جرى مع قافلة أهالي شمال شرقي سوريا (قافلة عشائر دير الزور) هي مجرد نموذج "مخفف" لما سيحصل مع سيل القوافل التي ستتدفق في المستقبل القريب، إذ لم تسلَم تلك المساعدات من الصراع بين الميليشيات ومن استيلاء جبهة النصرة على جزء منها، وفيما تهدف النصرة عبر هذا الاستيلاء إلى تحقيق أهداف سياسية عبر زيادة شعبيتها بين أهالي إدلب ممن سيتلقون تلك المساعدات، لن تسعى أي من الميليشيات الأخرى المرتبطة مع تركيا إلى أي نوع من هذه الأهداف السياسية، ولن يكون استيلائها على المساعدات إلا سرقة محضة بهدف إعادة بيعها والإثراء الشخصي منها على حساب المنكوبين.

وفيما تتجه الأمور في تركيا إلى تجاوز الكارثة عبر تأمين المنكوبين والوعود الحكومية بإعادة الإعمار، يبدو المشهد في سوريا أكثر قتامة بالفعل من لحظات الزلزال وورود أخبار الموتى، إذ نحن أمام سيل من الضحايا الذين هم بالكاد على قيد الحياة. ضحايا لم يتركوا لوحدهم فحسب، بل تركوا بصحبة ضباع فرضتها تركيا عليهم، وباتوا بعدما فعلته الطبيعة بهم تحت رحمة ميليشيات من أبنائهم لا رحمة فيهم. ميليشيات تتصارع منذ الآن على سلب المساعدات أو اختلاسها، والتي لو قيّض لها زلزلة الأرض مرة أخرى تحت أقدام السوريين لكان من المستبعد أن تتوانى عن فعل ذلك حفاظاً على "باب الرزق" مفتوحاً.