طريق الحرير "اللاحريري"

طريق الحرير

لوران ابراهيم


في اندفاعها الشرِه نحو أوروبا، تطلق الصين مشروعها الجديد "الحزام والطريق" في إحدى أكبر المغامرات التوسعية بعد الحرب الباردة وإن اختلفت الأدوات، دون أن ينقص هذه المبادرة اندفاع غير محسوب في عالمٍ لم تتغير مواقع القوى فيه جيوسياسياً، فضلاً عن التعاون مع دولٍ بعينها تفتقد الأمن والتوازن الداخلي الذي تحتاجه مشاريع البنى التحتية التي بدأتها الصين في هذه الدول، خدمةً لفكرة هي أقرب إلى إمبراطورية خيالٍ قد تفتح الباب نحو حربٍ عالمية أو احتلال اقتصادي صيني لدول فقيرة بدعوى دعم البنى التحتية وفتح طرق تجارة دولية.

طرق التاريخ القديم ممهدة

ليس لنا أن نتصوّر طريق الحرير القديم، بطريق ممتد من محطة في الشرق نحو محطة أخرى في الغرب، بل هو شبكة من العلاقات الاقتصادية في مجموعة ضخمة من المجتمعات على طول هذا الخط التخيلي، هكذا كان الحال في عهد أسرة هان في القرن الأول قبل الميلاد، عندما كانت الصين تفتح باب التجارة، ليبدأ الانتقال التجاري عبر الطرق والموانئ من موقع إلى آخر دون توقف، حتى الوصول إلى النقطة النهائية في سواحل أفريقيا ومن ثمّ سواحل المتوسط في جهة أوروبا.
تودّ الصين اليوم تطبيق الآلية ذاتها، عبر مشروع الحزام والطريق الجديد، لكن خلافاً لسهولة الانسياب الاقتصادي تاريخياً، تجد الصين نفسها اليوم أمام عالمٍ مختلف، إن من جهة توزع النفوذ السياسي أو من جهة النظام المالي، لتتقدم مندفعة بالاقتصاد ومتجاهلة ما عداه من خصائص العالم بعد الحرب الثانية، إلى درجة قد تقوّض مشروعها في خطواته غير المحسوبة، على أراضٍ ملغمة بانعدام الأمن والفساد السياسي وضعف الدولة وقلة الخبرات وغياب الثبات السياسي في الدول الرئيسية الداعمة لهذا المشروع الكبير.
تستثمر الصين مليارات الدولارات في هذا المشروع لبناء البنى التحتية، من مرافئ وطرق ومناطق صناعية، على طول الطريق الذي يربطها بالقارة الأوروبية. يتشعب الطريق البري عبر مناطق ثلاث، يمرّ أولها من أفغانستان، وثانيها من روسيا، وثالثها من باكستان. وتتوازع دولٌ أخرى على طول هذه الخطوط، لتتوزع معه حظوظ بناء الشبكات الاقتصادية المرتجى.

طريق الحرير الأوسط من أفغانستان إلى أين؟
بكين- تشي الصينية- أورمتشي الصينية- أفغانستان- كازاخستان- المجر- باريس
بما أنّ المسار الشمالي المارّ عبر روسيا مغلقٌ على مصراعيه مع بدء الحرب الأوكرانية، فلا شكّ أن درب أوروبا المأمول عبر هذه البوابة مسيج بالأشواك إلى سنوات طوال، لذلك سارعت الصين إلى فتح الدرب الأوسط، وسعت إلى التقارب مع طالبان إثر استلامها السلطة في كابول، فهي المحطة الأهم على طريق الحزام الأوسط، وهي فضلاً عن هذا موطن الليثيوم ، فالصين عينها على مناجم الليثيوم في غزني والتي تقدر قبل تعدينها بتريليون دولار، بينما يتراوح الطن الواحد من هذه المادة الأساسية في تصنيع بطاريات السيارات والهواتف المحمولة من 13-16 ألف دولار في الصين.
مع بدء إبرام العقود الجديدة في قطاع الليثيوم والنفط والنحاس، ومنذ أيام فحسب بدأت سلسلة هجمات عنيفة، قام بها تنظيم الدولة الإسلامية على مجمعات سكنية يرتادها رجال أعمال من الصين في كابل، بينها تفجير انتحاري قرب السفارة الصينية وسط العاصمة. لقد شنّ تنظيم الدولة 248 هجوماً ضد الحركة منذ وصول طالبان إلى السلطة، ولا يعني هذا سوى استمرارية لعملية اللاستقرار التي اتّسمت بها أفغانستان منذ عشرين عاماً ونيف.
بالعودة إلى الوراء، نرى أنها ليست المرة الأولى التي توقع فيها الصين عقوداً في مجال التعدين، فخلال حكومة حامد كرزاي وقعت الصين ثمانية عقود دون أن تلتزم بأيّ منها نتيجة الأوضاع الأمنية، كان أحدها عقد منجم النحاس في لوغر جنوبي كابل، واعتبر في وقته الثاني على مستوى العالم في العام 2008.
إن دفع الشركات الصينية إلى مغادرة أفغانستان باستخدام الإرهاب مرتبط بعدة عوامل، ليس آخرها ارتباط أفراد الحركات الجهادية بصلات قرابة بأقلية الإيغور في الصين، والتي طالما اتهمت الصين بالقيام بإجراءات تعسفية ضدها، من حملات اعتقال جماعية طالت مليون شخص، إلى احتجاز الأبناء في معسكرات اعتقال بعد فصلهم عن أسرهم، بل وإخضاع النساء لعمليات تعقيم قسرية وفق تقارير مفوضية حقوق الإنسان.
أفغانستان ببيئتها المعادية وغير المستقرة لن تكون والحال هذه درباً آمناً محتملاً للمشروع الصيني.

الطريق الجنوبي والاستثمار على كفّ عفريت
بكين- جنوب شينجيانغ - باكستان- إيران- العراق- تركيا- إيطاليا- إسبانيا

في يوم الجمعة الماضي حصل هجوم على مركز شرطة في كراتشي، أسفر عن قتل سبعة أشخاص عدا الإصابات, تلته من يومين فقط اشتباكات على الحدود الباكستانية- الأفغانية، أغلقت طالبان بعده معبر طورخم الحدودي، لتتكدس آلاف الشاحنات الممتلئة بالبضائع، وتتوقف الحركة أمام حركة التجارة والمسافرين. هذه مؤشرات بسيطة حصلت أثناء كتابة هذه المقالة لتضع الوضع الأمني في باكستان أمام إشارات استفهام عدة، خاصة بعد إعلان تحريك طالبان الجهاد ضد الدولة إثر فشل اتفاق السلام نهاية العام المنصرم.
شيدت الصين في باكستان ضمن ما يسمى " الممر الاقتصادي للصين-باكستان" سلسلة مشاريع بنى تحتية، شملت طرقاً سريعة وسدوداً كهرمائية، فضلاً عن تعديل مرفأ غوادر على بحر العرب. هذا السعي لتأمين طرق أكثر سرعة وأماناً ترفد طريقها البحري لتأمين وارداتها النفطية من الشرق الأوسط, تقابله مصاعب جمّة تتمثل في الدولة المضيفة ذاتها.
لا يتجاوز حجم اقتصاد باكستان التي تحتل المرتبة الخامسة لأعلى تعداد سكاني في العالم 340مليار دولار، أما تباطؤ النمو غير المسبوق، فقد جعل البطالة في أعلى درجاتها، في بلاد يصل فيها الدين الخارجي إلى ما يقارب 90 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، ويعيث فيها الفساد السياسي، فيعقّد عملية قيام أية شبكة اقتصادية مفترضة. أما ضعف التعليم الذي جعل باكستان تحتل المرتبة 180 من بين 221 دولة في مجال محو الأمية فهو مؤشر إنذار للاستثمارات الصينية في باكستان، فمن المعروف وفق الأبحاث أن الاستثمار في البنى التحتية المادية يعزز النمو في البلاد التي تتمتع برأس مال بشري عالي السوية، فما بالك بضعف التعليم الهائل الذي لن يخدم بأية حال هذا الغرض من النمو.

احتلال ناعم

إذا شئنا مقارنة مشروع الحزام والطريق بمشروع مارشال، سنجد أنه يختلف عنه بآلية التمويل، فالطريقة الصينية لا تستند إلى المساعدات أو الاستثمار الأجنبي، إنما تعتمد آلية القروض المقدمة للدول التي تحتاج إلى تأسيس بنية تحتية سوف تساعد الصين لاحقاً على تمرير منتجاتها عبر الطرق التي تمرّ بهذه الدول، وعبر الشبكات الاقتصادية التي تؤسسها باستخدام شركاء محليين.
والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف لدولٍ مثقلة بالديون سلفاً مثل العراق وباكستان وأوزبكستان، ألا تقع في فخ دبلوماسية الديون، فإحدى الدراسات التي أجراها مركز التنمية العالمي خلصت إلى أن هنالك ثمانية دول من بين 63 دولة مشاركة في مشروع الحزام والطريق معرضة للعجز التام عن السداد. ومؤشر النمو المنخفض سلفاً وعدم توفر شروط موازية تدعم عملية بناء البنية التحتية، قد يسهم في انحدار هذا الدول بدل مساعدتها على النهوض.
أما الأهداف الرسمية المعلنة مع بدء المشروع، فقد احتوت إشارات غير مطمئنة، فتنسيق السياسات بين حكومات الدول المشاركة في المبادرة هو دوماً لصالح الصين باعتبارها "مديرة المشروع" ، لتأخذ الصين بهذا دور المصمم والمشغل والمحلل لتفاصيل المشروع، مقابل دور ضئيل للدول الأخرى المتعاونة. صحيح أنّ التدخل لا يرقى إلى أي تدخل في السياسات، أو بنية الدولة كما تفرضه الجهات الدائنة الأخرى مثل صندوق النقد الدولي. لكن الإدارة الخارجية لمشاريع ضخمة في البلد الواحد قد تقوض سيادة هذه الدول بشكل ما.

إعادة ترسيم حدود الإمبراطوريات
في خطاب ألقاه الرئيس الصيني تشي جي بينغ عام 2013، قال أن مبادرة "حزام واحد طريق واحد" لبلاده هي استراتيجية ضد تحرّك الولايات المتحدة شرقاً نحو آسيا. بهذا تعلن الصين في تحدٍّ خطر، عن سعيها لتغيير المعادلة الجيوسياسية للعالم. واندفاع الصين للوصول إلى السوق الأوروبية وهي الحليف الأكبر للولايات المتحدة لن يقابله سوى تحدّ آخر من الغرب قد يقود إلى مواجهة عالمية.
مع توسيع طريق الحرير الجديد، لا بد للصين أن تسعى إلى حماية هذه الطرق البري منها والبحري, ووضع القواعد العسكرية المحتمل في المستقبل على طول هذه الطرق لن يخلو من مساءلة المجتمع الدولي، وهو أمرّ لا بدّ منه لضبط الترتيبات الأمنية على طول الحزام. إن الصين والحال هذه، قد تتورط سياسياً وعسكرياً في مشروع وضعته فقط للتخلص من فيض إنتاجها المستمر.
أحد أهمّ الدوافع التي تقف خلف المشروع الجديد فهو فائض الإنتاج الصيني، فعلى مستوى الفولاذ وحده تنتج الصين حوالي 1,1 مليار طن سنوياً، لكنها لا تستهلك سوى 800 مليون طن على أقصى تقدير. هذا الفيض من الإنتاج الذي قادها إلى إحياء طريق الحرير القديم، قد يقودها إلى حروب فضفاضة لن تكون يداً مساعدة في نموها الاقتصادي الطاغي.
ولن تقف الولايات المتحدة متفرجة على الصين وهي تحاول إعادة ترسيم حدود الإمبراطوريات، فقد بدأت فعلاً بالتخطيط لتعبئة 600 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة والعامة بحلول عام 2027، لتمويل البنية التحتية العالمية حتى لا تضطر البلدان على الاعتماد على المعونات الصينية. أما التحركات العسكرية في تايوان فغير خافيةٍ على أحد.
تنبع أهداف الولايات المتحدة من القضاء المبرم على روسيا والصين، بدفع روسيا إلى شنّ حرب في أوكرانيا واستنزاف قدراتها، وجرّ أوروبا إلى صراع مع روسيا لتدمير إمكانية التجارة مع الصين. كلّ هذه التحركات العالمية تملأ طريق الحرير الجديد بالعوائق، ليخلو حريره من انسيابية الممكن.