ماذا لو تحاربنا بالهراوات؟ نيكروفيليا الحرب وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي

ماذا لو تحاربنا بالهراوات؟ نيكروفيليا الحرب وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي
العمل للفنان الغرافيتي الفرنسي Goin

مور لوران


عديدةٌ هي المصادر التي ربطت مطوّلاً بين الحروب والصراع على الموارد، خلافاً لواقعٍ مغاير على مستوى التاريخ والنزوع النفسي للبشريّة. إذا كانت الهراوة أول أداة اقتتالٍ جماعيّ فما هي آخر أداة حسب تطوّر الذكاء الاصطناعي، وما مقدار الشرّ الذي تنطوي عليه. وهل في تطوّرها غير المسيطر عليه، فناءُ البشرية؟

صراعٌ على الموارد أم عدوانٌ غريزي؟

فرضياتٌ عدة قامت على أن نشوب الحروب الجماعية ابتدأ مع عهد الزراعة، أي العهد الذي استأثر فيه الإنسان بالموارد وبدأت الملكية تتضح في خطوطها الأولية. إلا أنًّ علم الحفريات يحيلنا إلى موقع مغاير كليّاً، فأسلافنا الذين تفترض مخيلتنا الرومانتيكية انشغالهم بالصيد وجمع الثمار والبحث عن معرفة فن العيش، خاضوا اقتتالاً جماعياً في أكثر من موقع مكتشفٍ حديثاً.
في كهوف شانيدار على سفوح كردستان، وجدت بقايا عشر أفرادٍ من النياندرتال، يحمل عددٌ منهم إصابات بأدوات حادة وأسلحة أطلقت عن بعد. يرجع تاريخ هذه البقايا من 35-65 ألف عام من عمر البشرية، وهي أول مثالٍ على خوض أسلافنا حرباً جماعية في وقت لم تعرف فيه ملكية الموارد.
اكتشفت الزراعة قبل تسعة آلاف عام فحسب، ما يعني أن الحروب الجماعية جرت قبل بدء التزاحم على الموارد، وما يؤكد الفكرة وجود نساء حوامل وأطفال في تلك المقابر، أيْ أنَّ الاقتتال جرى بدوافع انتقامية أكثر منها مادية، وهذا يحيلنا إلى سؤال أشدَّ عمقاً: هل التدمير طبعٌ في النفس البشرية؟ أم يحتاج إلى أسباب ليتبدّى؟

النيكروفيليا والتدميرية البشرية

يتطرق ابن خلدون إلى أصل الحروب ويحيلها إلى إرادة انتقام بعض البشر من بعض، أما متى بدأ هذا فهو بدء الخليقة: "إعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعةً في الخليقة منذ بَرَأَهَا الله" ويسترسل ليصف كيف تتوافق طائفتان إحداهما على الانتقام والأخرى على الدفاع :"فإذا تذامروا... كانت الحرب، وهو أمر طبعيٌّ في البشر، لا تخلو عنه أمةٌ ولا جيل"
ابن خلدون والحال هذه يشير إلى الطبع الاجتماعي، أي الطبع المشترك في جماعة، ليقترب بهذا من نظرة إيريك فروم الذي يردّ العدوانية في كتابه "تشريح التدميريّة البشريّة" في علم الطباع إلى النيكروفيليا، ويصف النيكروفيليا بأنها الشغف بتحويل كلّ ما هو حيّ إلى اللاحياة، وبأنها التدمير من أجل التدمير، والشغف بتفكيك كل البنى الحية.
يميز فروم بين عدة أنواع من العدوان، فهناك عدوان خبيث وعدوان غير خبيث، وثانيهما هو الدفاع بالفرار أو الهجوم المضاد، وهذا الدافع مبرمج وفق النشوء النوعي. فكيف لي أن أدفع عن نفسي العدوان دون عدوان مماثل؟ وطالما أن هنالك دافعاً للعدوان يبقى التدمير في نطاق تفسيري قائم على الطبع. خلافاً لنظرية قدمها فرويد في العشرينيات مفادها أنّ الرغبة في الموت والتدمير جزء أصيل في البشر يتعذر استئصاله، تماماً كالمجاهدة من أجل الحياة. لتتحول العدوانية في التحليل النفسي إلى غريزة ثابتة. تضعنا أمام سؤالنا الأزلي: طبعٌ أم غريزة؟

شهوة الإمبراطورية

مع تطور المجتمعات البشرية، وظهور فكرة المجتمع- الدولة، تواثبت النيكروفيليا بين طيات البحث عن الموارد والأسواق، لتنتج المزيد من الحروب الجماعية المذكاة والحال هنا بتطور للذكاء البشري سمح بتطوير أسلحةٍ أشدّ فتكاً. كان الفصل دوماً بين شهوة الحصول على الموارد، والحروب أمراً شائكاً، فلا بد من المزاحمة على تلك الموارد، وأية مغامرة مهما بلغت من الدبلوماسية غرقٌ في مستنقع حربٍ ما.
في الصين وفي عهد أسرة منج، وبعد طرد المغول من الصين ووصولهم إلى السلطة في الهند، أغلقت بعض طرق التجارة الحيوية للصين، ولأن البلاط بحاجة إلى استيراد منتجات فاخرة، أمر الإمبراطور بتنظيم حملات بحرية ضخمة إلى البحر الأحمر. مئتا سفينة ضخمة وسبعة عشر سفيراً ومئات الضباط، نظموا رحلات دام كلٌّ منها سنتين إلى كلّ الأمصار بقيادة "زنج هي". لتعقد الصين صلات ب 35 أمة في آسيا وأفريقيا وتفرض عليها الولاء والتبعية.
كلّ هذه الأطماع الدبلوماسية ظاهراً، جعلت غزوات المغول تزحف على الصين ذاتها، ليستدعي الإمبراطور كل قواته وتعودَ حملات "زنج هي" إلى الديار، ويُمنَع بناء كلّ سفينة ذات صارٍ، وتُحرَق كلّ التقارير الرسمية عن أسفار زنج حتى لا يذكرها أحد. ويعدمَ كل صيني يتأهب للإبحار. وتنغلق الصين على ذاتها قروناً عدة، دون حروب مكلفة.
اليوم تعود الصين إلى المغامرة ذاتها، وترسم درب الحرير الجديد، لتصل إلى السوق الأوروبية، تلعب بأوراق دبلوماسية وتجارية، غير آخذة في الحسبان تأهب جهات أخرى لوقف هذا الطموح، فهل يكرر التاريخ نفسه؟ لقد تهيأت في المحيط الهادي كلّ أسباب الحرب بين قوى عظمى، أمّا الأدوات فقد اختلفت أيما اختلاف، يرسمها اليوم عقلٌ آخر استنبطه العقل البشري ذاته، هو الذكاء الاصطناعي.

اشتباك بالهراوات على حدود دوليّة

في التاسع من ديسمبر المنصرم، اندلع على الحدود الصينية- الهندية اقتتال بين جنود بالعصيّ المسمّرة. وكان تكراراً لحادثة أخرى جرت قبلها بعامين في لاداخ وسقط فيها ما لا يقلّ عن 24 قتيلاً. لم يخلُ تداول الفيديو من النكتة فقد اعتدنا على الأسلحة الغاشمة والتي طورها ذكاؤنا البشري على مدى عصور من الحروب البينية.
لكن الحادث يسوق مخيلتنا إلى عمق التاريخ، فمن هراوة النياندرتال التي تقتل شخصاً واحداً في الضربة الواحدة، إلى قنبلتي هيروشيما وناغازاكي اللتين قتلتا ما ينوف عن 220 ألف إنسان في ضربتين فقط ! إلى حروب عالمية كبرى جمعتْ كل المجتمعات المنظمة ضمن دول، وأحرِقت فيها الحضارة الإنسانية عن بكرتها من شجر وبشر وبناء، هكذا يتطور الذكاء البشري في التدمير الذاتي، بسرعة تجاوز سرعة الحياة.
إنَّ المواجهة بين الجنود الصينيين والهنود تعطي كلمة "مواجهة" حقها، فأن تلتقي عدوك وجهاً لوجه وتشبعه ضرباً قد يمتص غضباً لا يصل بك إلى القتل ذاته. أما المواجهة بين قوى منظمة بقوانين فاقت عاطفة الإنسان بل وحكمته، أودت بنا إلى حروب عالمية كبرى رتبتها نواظم وأوامر عليا عمياء لا ترى وجه العدو مطلقاً.
في العصور الوسطى كانت الجيوش تبدأ بعراك بين فارسين، فإذا جندل أحدهما الآخر بقيت هنالك فرصة للدبلوماسية، أما اليوم فالجنرالات في المكاتب وليسوا على أرض المعركة، لا يرون أعين الجنود، إنما ينظمونهم بأرقام ودفاتر، ليسوا أرواحاً إنما قوى عمياء لا حول لها، تدور في معركة قد لا تدرك معناها. تديرها قوى رأسمالية تضع بيع السلاح قبل أولويات الحقّ والعدالة والجمال. لا قيمة لهراوة خشبية اليوم في سوق السلاح.... لذلك أحرقنا الهراوات.

الذكاء الاصطناعي ونهاية العالم

تماماً كما بدأت النظم والقوانين تحكم المجتمعات وفعالياتها بما فيها الحروب، كذلك تتحكم اللوغاريتمات اليوم في النشاطات البشرية، لوغاريتمات تعتمد على جمع تجارب البشر وجدولتها وتحليلها، دون شرح للوقائع التي أنتجتها، ولا الحقائق القائمة فعلياً. هذه اللوغاريتمات مهيأة لجدولة السلاح المتطوّر نفسه، لترسم خطورةً لمسها ثعلب السياسة هنري كيسنجر.
مهندس الحرب الباردة يجسّ خطورة الذكاء الاصطناعي قبل سواه، هل لأنه عايش أهوال أحد الحربين أقلّه؟ أم هو خوف شامل من الفناء، يصف كيسنجر في كلمة ألقاها في نوفمبر الماضي الذكاء الاصطناعي بالجبهة الجديدة للتحكم بالسلاح، ويطالب القوى العظمى بالتوصل إلى طرق للحدّ منه وإلا "فسيكون ببساطة سباقاً مجنوناً نحو الكارثة".
السؤال الذي يطرح نفسه، هل نعرف كيف تفكر الآلة؟ وهل تعرف الآلة تفكيرنا الحقيقي بعيداً عن اللوغاريتمات الإحصائية؟ تكمن الخطورة في صعوبة تقييد الآلة التي خلقناها بأنفسنا، وصعوبة الحصول على نتائج تشابه بالضرورة نتائجنا. فالعقل البشري أكثر تعقيداً من التجميع المعرفي والمنطقي. إنّ ما يخيف كيسنجر هو التقدم التكنولوجي في مجال السلاح النووي، فماذا لو أخذت الآلة قراراً بدل الإنسان. من هنا دعوته إلى الولايات المتحدة والصين إلى وقف شراكة الإنسان مع الآلة حتى لا تطوّر الآلة حكمها الخاص، ونصبح عاجزين تحت رحمتها.
يتضاعف هذا الخطر بعد المناوشات التي تشهدها الصين والولايات المتحدة، وكلّ منهما قوة تكنولوجية عظمى، في حرب الرقائق التي تلوح في تايوان. تستخدم هذه الرقائق في كلّ مجالات حياتنا اليوم من هواتف ذكية وسيارات ومطارات، لكن الأهمية الأكبر هي في استخدامها الواسع في الأسلحة. إنّ أيّ تطوير جديد للذكاء الاصطناعي من قبل الصين، وشهوة الإمبراطورية التي تلوح في أفقها بعد بدء مشروعها الجديد لطريق الحرير، يجعل لصرخات كيسنجر على المنابر أهمية قصوى.

خاتمة
قد تأخذ الآلة عن الإنسان قرارات عدة، وفي هذا تطوره التكنولوجي والحياتي والرفاهي، إلا أنّ ما ليس في الحسبان هو أن تأخذ الآلة قرار فنائه، وفي حربٍ سريعة تقترب اليوم من حدود الممكن بعد صحوة فكرة الإمبراطوريات التجارية.
هنا نضع سؤالنا البرئ موقعه ثانيةً:
لماذا لا نحدّ من ذكائنا الاصطناعي، ونعود لنتحارب بالهراوات؟