14 أيار بين الأمس والغد! الانتخابات التركية 2023
كيفورك خاتون وانيس
لم يكن تقديم موعد الانتخابات التركية من قبل أردوغان وفريقه إلى الرابع عشر من شهر أيار القادم مجرد إجراء إداري أو بدون أي أجندة سياسية. وهذه القراءة ليست نتيجة تكهنات أو تحليل سياسي، إذ ما انفك أردوغان وحزبه عن استخدام هذا التاريخ وما تلاه من أحداث في أجندتهم السياسية، وليس من لحظة أحوج من الانتخابات كي يكرر اردوغان وفريقه التذكير برمزية هذا اليوم في تاريخ الدولة التركية.
في 14 أيار 1950 جرت أول انتخابات ديمقراطية في تركيا الحديثة وذلك بعد أكثر من ربع قرن من حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد كمال أتاتورك الذي بقي في السلطة من لحظة تشكل الدولة 1923 حتى وفاته 1938 ومن بعده رفيق دربه الجنرال عصمت إينونو الذي كان يشغل منصب رئيس الأركان ومن ثم رئيساً للوزراء على أثر استقالة جلال بيار وانشقاقه عن الحزب الحاكم : حزب الشعب الجمهوري الذي تفرّد بحكم الدولة منذ نشأتها وحتى 14 أيار 1950.
في تلك الانتخابات نجح الحزب الديمقراطي (الذي أسسه جلال بيار وعدنان مندريس وآخرون منشقون عن حزب الشعب الجمهوري) في حصد أغلبية مقاعد البرلمان وبالتالي تشكيل حكومة برئاسة عدنان مندريس، بالإضافة إلى انتخاب البرلمان لـ جلال بيار رئيساً للجمهورية لتبدأ مرحلة مختلفة عن سابقتها في جانبين هامين: محاولة ابعاد العسكر عن الحكم (الجنرالان أتاتورك وإبنونو ) والبدء بنظام الحكم البرلماني بدلاً عن الرئاسي.
لكن يبدو أن نجاحها في الأولى لم يستمر طويلاً، إذ أن حزب الشعب الجمهوري (الذي قبل بنتائج الانتخابات على مضض) الذي فشل في العودة إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع على مدى 10 سنوات، لجأ إلى كبار ضباط الجيش واقنعهم بوجوب التخلص من هذه الحكومة وذلك بتجهيز قائمة من التهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تطال رئاسة الحكومة والدولة، الأمر الذي دفع الجيش في 1960 إلى القيام بأول انقلاب عسكري على أول حكومة منتخبة ديمقراطياً في تاريخ تركيا الحديثة، حيث تم إعدام كل من عدنان مندريس ووزيري الخارجية والمالية والحكم على جلال بيار بالسجن المؤبد.
كانت تهمة تقويض علمانية الدولة هي أخطر وأهم التهم التي وجهت حينها لسياسات حكومة مندريس. كما لو أن العلمانية تعني قيام الدولة أو الحكومة بقمع الحريات الدينية !!؟ يبدو أن فهم العلمانية على هذا النحو هو من صلب آلية عمل الأنظمة الشمولية؛ ألم تأتي تجربة قمع الحريات الدينية في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا بنتائج عكسية ومريرة؟ ألا تُعتبر تجربة العلمانية في الغرب أفضل حيث تفصل الدولة العبادات عن السياسات وبنفس الوقت تضمن حماية حرية ممارسة العقائد في المعابد الخاصة بها.
بغض النظر عن صحة هذه التهمة وخطورتها وغيرها من التهم إلا أن دخول العسكر في السياسة هو مطب آخر تقع فيه الدولة لا يقل خطورة عن تلك التهمة ذاتها؛ والتجارب عديدة عن العيش في ظل حكم الجنرالات.
كثيرة هي المواقف والمناسبات التي ألمح بها أردوغان وحزبه إلى أنهما امتداد لمندريس وحزبه ليكسب التعاطف الجماهيري وتوجيه رسالة تحذير إلى العسكر والنيل من المعارضة وخاصة حزب الشعب الجمهوري (الذي كان وراء التحريض على مندريس ورفاقه)، لكن يبدو أن أروغان وفريقه لم ينتبهوا إلى أن قراءة ذلك التاريخ يتطلب الاطلاع على وجهي الورقة!
كم يختلف نهج أردوغان وحزبه عن سياسات الحزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) في فترة 1923 -1950 من حيث السعي إلى تحويل الدولة إلى دولة الحزب الواحد والزعيم الأوحد؟
ألا تشبه عملية انشقاق رفاق دربه (عبدالله غول وأحمد داؤود أغلو) عن حزب العدالة والتنمية والوقوف ضد نهجه، عملية انشقاق جلال بايار وعدنان مندريس عن حزب الشعب الجمهوري في اربعينيات القرن الماضي وتشكيل حزب معارض لسياسات حزب أتاتورك؟
لا بل ثمة خطوة خطيرة قام بها هذا الحزب من أجل تقوية نفوذه وتكميم الأفواه، ألا وهو المادة 301 المسمى بقانون "إهانة الأمة التركية" الذي صدر في 2005 والمستخدم دائماً بشكل سياسي في رفع دعوى عديدة ضد كل من يخالفهم الرأي أو ينتقدهم، فعلى سبيل المثال تم بموجب هذا القانون رفع دعوى على الروائي المعروف أورهان باموك !
إذا كان أردوغان يستخدم هذا التاريخ للتذكير بما فعله العسكر وحلفائهم، فان الحكم العسكري أو القمعي لا يتمثل فقط بثلة من الضباط يستولون على السلطة بل هو أيضاً نهج سلكته الكثير من الأحزاب التي وصلت إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع (هتلر على سبيل المثال) أو بثورة شعبية (كاسترو على سبيل المثال)!
لكن للحقيقة وللإنصاف هل يمكن اعتبار أروغان وحزبه هما المسؤولان الوحيدان عن وصول تركيا إلى هذا المأزق؟ هل كان الاستفتاء (الحدث الأبرز الذي قضى فيه الشعب التركي على ديمقراطيتها النامية بطريقة ديمقراطية) الذي حوّل تركيا من الحكم البرلماني إلى الرئاسي لينجح لولا تحالف حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي ؟ أليس عدم اتفاق المعارضة على أجندة مشتركة هي أحد أسباب شعبية أردوغان وحزبه؟
لقد بدأ دخول تركيا في المأزق مع نجاح هذا الاستفتاء الذي بموجبه تم الغاء منصب رئيس الحكومة (رئيس محلس وزراء) ومنح الرئيس سلطة تعيين الوزراء، وسلطة تعيين كل المسؤولين المدنيين رفعي المستوى، وإعادة هيكلة الوزارات والإدارات العامة حسب تقديراته.
أما أخطر ما في الاستفتاء هو منح الرئيس سلطة تعيين نصف قضاة الدولة في المراكز العليا. والنصف الآخر يتم انتخابه من قبل البرلمان. هذا يعني بأنه إذا حدث وكان الرئيس والحزب الأكبر في البرلمان من نفس الحزب، فأن سلطة وحيدة سوف تعيّن كل أعضاء الهيئات القضائية العليا في الدولة!
يذكّرنا التاريخ بأن مصير شعب الدولة الشمولية (دولة الحزب أو العائلة أو الحاكم الأوحد) مأساوي وخاصة تلك التي تضم مكونات ذات أصول قومية ومذهبية مختلفة.
كما ينصحنا بأن نمط الحكم الأنسب لهذا النوع من الدول هو نظام الحكم البرلماني الذي يضمن عدم تفرّد حزب واحد بالسلطة و اخضاع مصير الدولة والمجتمع لأهواء زعيم هذا الحزب.
صحيح أن تركيا حتى الآن ليست دولة شمولية بالمطلق (كما هو الحال في روسيا أو إيران اللتان ستواجهان يوماً ما استحقاقاً متأخراً سيكون ثمنه باهظاً قد يصل حد الحرب الاهلية أو تفتت الدولة) لكنها قطعت شوطاً بعيداً باتجاهه.
بعد مرور مائة عام على نشوء تركيا الحديثة، تدخل اليوم في منعطف تاريخي خطير سارت عليها بإرادته أو ربما دون ادراك كاف بعواقب الاستفتاء.
أنه مأزق من نوع خاص يصل حد المعضلة، إذ أن فوز أردوغان وحلفائه بالانتخابات يعني تحول تركيا إلى دولة شمولية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من اختزال الدولة في منظومة حزب وفي شخص الزعيم .
أما فوز زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو (مرشح الطاولة السداسية) يعني الإيفاء بوعود أهمها تعيين رؤوساء الأحزاب الخمسة المتحالفة معه، نواباً له بالإضافة إلى نائبين ان أخرين (رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول) فرضتهما ميرال أكتشنار، رئيسة الحزب الجيد، كشرط لعودتها إلى الطاولة السداسية بعد أن كانت قد انسحيت منها في وقت سابق. أي قيادة دولة وحكومة بسبعة نواب للرئيس. ناهيك عن أهم نقطة في برنامج الطاولة السداسية ألا وهي العودة إلى النظام البرلماني.
والأهم من هذا وذاك، هل سيقبل أردوغان وحلفاؤه بالهزيمة أم أنهم سيتصرفون مع كليجدار أوغلو وحكومته بطريقة تشبه بشكل أو بآخر تصرف عصمت أينونو وحلفاءه مع مندريس وجلال بايار بعد انتخابات 14 أيار 1950!