التأثير الشبكي للإسلام السياسي
سامي داوود
ظهر مفهوم الشبكة في العالم الغربي كحاجة لمفهمة التفاعل البشري اللامركزي، بعد أن تحولت الأسواق إلى اقتصاد الشبكات(جيرمي تيفكن)، وتعددت نقاط التأثير في الظواهر الحديثة مع توفر انتقال المجتمعات إلى مستوى المجتمع العائم إن جاز التعبير. الأمر الذي سهّل ظهور المجتمع الشبكي ( دارن بارني) في فضاء معزز بالتفاعل الرقمي. واعتمادا على الأنترنيت، تأسست الشبكات لكسر احتكار الهيمنة المعرفية على المجتمع، وبدء عصر الهيمنة متعددة المرجعيات. وهكذا، تخثر مفهوم التأثير الأشبه بالشعوذة. لماذا.؟ لأن محتوى التأثير بات نقيضا للعقل، فأكبر المؤثرين هم الأقل تأهيلا. وتمكنت الشبكة من التغلغل مباشرة في الغريزة الجمعية ـ رغم ضعف فكرة الجمعية ـ لتكون لدينا الظاهرة الحديثة للمجتمع الاستهلاكي الاستعراضي. وسرعان ما تكيفت تيارات الإسلام السياسي مع هذه المعطيات، وقامت باستخدامها دعائيا ضمن فكرة القوة الرديفة الناعمة.
تلى ذلك تحديث متعدد الأبعاد في بنية التنظيمات العقائدية الدينية وشبه الدينية مع التحولات التي طرأت على منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الدكتاتورية العراقية 2003. متزامنة مع الثورة الرقمية التي جعلت المعلومات تتحرك في مسارات منفلتة عن سطوة الدولة الرقابية.و توفر منصات للترويج لأي شيء. ضمنها، الترويج للعنف كشيء مرغوب فيه.
يأتي ذلك معطوفا على ثقافة مجتمعية محلية منبهرة بالقسوة. وتاريخ مناهض للحريات الفردية ولحقوق الإنسان. الأمر الذي جعلت الظواهر الحديثة تتفاعل كشبكة معقدة من العناصر غير القابلة للجمع في فضاء واحد، إلا أنها تترابط بما يخالف العقل.
دون التغافل عن عوامل أخرى مرتبطة بالهجرة الجهادية المتبادلة بين حركة الأفغان العرب الذين توجهوا من البلاد العربية إلى مرابع تورابورا الأفغانية، وعودة قسم كبير منهم إلى الجبال الوعرة لمنطقة "بيارة" التابعة لمحافظة حلبجة في كردستان العراق. ومن ثم المبادلة اللاحقة للمتطرفين بين سوريا وتركيا والعراق.
وقد تمّ تغذية ما تقدم بمشهدة استعراضية على الشبكة العنكبوتية، وزعت بها الحواضن المجتمعية و الثقافية في نقاط قابلة للتورية تحت مسميات فضفاضة. وهنا، دخلت تركيا بقوة على الخط، عبر إعادة إحياء العثمانية الإسلامية وتصديرها إلى المجتمعات المهيئة لاستقبال التاريخ كإسطورة إسلامية يجد فيها المسلمون تعويضا لخساراتهم المتراكمة. فبعد أن عرضت النسخة الأوردية من مسلسل “Diriliş: Ertuğrul,” التركي في باكستان، تجاوز عدد مشاهدات الحلقة الأولى منه على منصة اليوتوب فقط الـ 90 مليون مشاهدة. على إثرها طالبت باكستان بأن ينتجوا نسخة أخرى حول شخصية “Turk Lala, الباكستانية، الرجل الذي هاجر من باكستان إلى تركيا ـ علما أن باكستان لم تكن موجودة حينذاك ـ ليدعم الحروب العثمانية. هذه فقط عينة من ضمن ما يستخدمه الإسلام السياسي لتطعيم الجهاز الثقافي للمجتمعات المحلية بالميول النمطية التي تنتجها الدول المتحكمة بالشبكات، تنظيمات كانت أم معلومات ضمن تسمية القوة الناعمة. غير أنها في الحقيقة قوة تضاعف من خشونة هوية المجتمعات الخاضعة لها وتؤجج حدة تعارضها مع الأطراف المختلفة عنها.
فوضى الأفكار هذه، والتي يسميها جان بودريار بـ الخلاعية الثقافية. تمنح الحركات العقائدية، ضمنها تيارات الإسلام السياسي، أدوات كثيرة لتزوير الأفكار المتعلقة بحقوق الإنسان ومكانة المرأة في المجتمع. ناهيك عن وجود راعٍ إقليمي لتعويم الإسلام السياسي تحت مسميات متناقضة، كتعبيري "العدالة و التنمية" لحركات الإخوان المسلمين في كل من تركيا وتونس.
تتباين قدرة المجتمعات على التكييف مع هذه التأثيرات وفقا لتاريخ الاستقرار الاجتماعي والعمق الثقافي لكل مجتمع. وهكذا تكون المجمعات غير المستقرة، المتهيكلة بأثر الحروب الداخلية، والخاملة بفعل الاقتصاد الريعي، هي الأضعف على المقاومة. فسرعان ما تتحول إلى مجتمعات استهلاكية، برغباتها المصطنعة من قبل ماكينة الدعاية، والمنجذبة لكل وأي خطاب انفعالي لا يتطلب منهم أي جهد سوى الاستجابة الانفعالية لكلمات عاطفية عنيفة، تجرها إلى دائرة العجز التي ترسمها لها القوى السياسية والدينية المتحكمة بتوجهات هذه المجتمعات. ضمنها المجتمع الكردي في كرستان العراق، والممزق بما أفرزته الكراهية لخطاب الحرب الأهلية وتداعياتها. والمنقسم إلى كيانات شبه مغتربة عن بعضها البعض، بفعل الخطابين الديني و السياسي التقليدي. وضعف الخطاب الثقافي في ردم التشرذم الاجتماعي ببدائل مدنية ما فوق قبلية وحزبية.
أما في وسط وجنوب العراق، فإن أثر المشهدة الاستعراضية للطقوس الخُطب الدينية، ومتابعتها على وسائل التواصل الاجتماعي يتجاوز الخيال بصيغٍ تشلُّ العقل.
علما أن اللجوء إلى الدعاية من أجل الهيمنة، هي سمة تاريخية مشتركة بين القوى الدينية والأنظمة الشمولية في آن. إلا أنها اليوم تنتقل إلى مستويات شبكية معقدة، لا يسهل معها الاعتراض على ما تبثه من بيانات مضللة حول وقائع ما. وبشكل خاص، بعد أن عمّق زخم التواصل الرقمي من الشرخ بين التفكير والمتابعة. وبات الناس أشبه بالروبوتات المرتهنة ببرمجة السلطة المتحكمة بالمنصات.