العرب في سوريا: حضور الدم وغياب المشروع
داريوس درويش
منذ اندلاع حركة الاحتجاجات السورية وتحولها إلى صراع مسلح، أسست كل من تركيا وإيران وروسيا مناطق نفوذ لها في سوريا لإرضاء طموحها الإمبريالي المتزايد. حاولت الدول العربية في بداية الثورة السورية، بين أعوام 2012 و 2018 تحصيل جزء من "الصيدة" بحسب تعبير وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، وإنشاء نفوذ لها من خلال دعم بعض الفصائل المسلحة بالشراكة مع "الحليفة" تركيا، إلا أن الأخيرة لم تفسح لها هذا المجال، وانتهى النفوذ السعودي، ومعه النفوذ العربي المحض، بعد تسليم الغوطة للنظام السوري عام 2018 وانتهاء الفصائل المرتبطة بها أو تغيير ولائها لتركيا بعد انتقالها شمالاً واستيطانها عفرين.
بعد القضاء على النفوذ العربي في سوريا (بالأدوات التركية قبل النظام السوري)، تنقسم اليوم الدول العربية فيما بينها حول طريقة التعامل مع الأزمة السورية. ففي قضية التطبيع مع النظام السوري ثمة موقفان: الأول تقوده السعودية مع الدول العربية السائرة في فلكها والتي تسعى للتطبيع مع نظام الأسد بنفسها؛ والثاني تقوده قطر السائرة في الفلك التركي والتي تعارض التطبيع العربي مع النظام فيما تدعم التطبيع التركي معه. هذا الانقسام ليس بين مشروعين عربيين يمكن لأحدهما أن يعيد النفوذ العربي إلى سوريا، إنما يتمحور هذا الانقسام حول الطموح الامبريالي التركي بين داعم له وآخر معارض يسعى للحد منه.
من جهة، ورغم ما يروج له الإعلام العربي من أن التطبيع السعودي مع النظام السوري هدفه مواجهة النفوذ الإيراني، إلا أن التنازلات التي قدمتها الرياض في اليمن لإيران وترحيب الأخيرة بالتطبيع العربي مع دمشق، يعني بالضرورة أنها لا ترى نفسها على الأقل متضررة منه، وهو ما يضع وجود هكذا دافع موضع شك. مقابل ذلك، فإن تزامن الانفتاح السعودي على النظام السوري مع محاولات التطبيع التركية معه، منح الأسد خيارات دولية أكثر ربما تكون قد ساهمت بشكل مقصود في كبح حماسه تجاه مبادرة أنقرة والإصرار على شروطه لعودة العلاقات مع تركيا رغم ما أبدته موسكو من حماس، وذلك بهدف الحد من النفوذ التركي في البلاد. من جهة أخرى، فإن معارضة الدوحة للتطبيع مع الأسد وتسجيل تحفظاتها على عودته الكاملة للجامعة العربية ليس من المحتمل أن يكون مبرره ما يروج له إعلامها من أن الأسباب الرئيسية لاستبعاد النظام السوري من الحضن العربي ما زالت قائمة، وأنه لم يغير من سلوكه بعد، لأن قطر تدعم في المقابل التطبيع التركي مع النظام رغم أنه لم يغير من سلوكه فعلاً.
بموازاة الانقسام الرسمي العربي، ثمة تقسيم للعرب السنة على الأرض في سوريا. فالبلاد مقسمة اليوم إلى ثلاثة مشاريع أساسية، مشروعان إمبرياليان تقود أحدهما تركيا والآخر إيران وروسيا، ومشروع ثالث محلي تمثله الإدارة الذاتية، ومع أن هذا المشروع الأخير يضم العرب كذلك، إلى جانب الكرد والسريان، إلا أن الغالبية العظمى من العرب السوريين مقسمون على المناطق الخاضعة لسيطرة أحد المشروعين الامبرياليين. ورغم أن هذه المناطق هي التي دفعت أكبر ضريبة بشرية ومادية في البلاد منذ انطلاق الثورة السورية، من مئات آلاف القتلى وملايين النازحين واللاجئين، والأحياء والقرى المدمرة بالكامل، فإنهم يبقون حتى الآن دون مشروع سياسي عقلاني يمثلهم ويعطي لتضحياتهم معنىً وترجمة سياسية.
عدم وجود مشروع سياسي عقلاني للعرب السنة الآن لا يعني أنه لم يكن موجوداً سابقاً، بل كان موجوداً، وإن بشكل غير ناضج، وتم قتله. قُتِل المشروع بداية حين نُقلت معركة "تحرير سوريا" من الجنوب، حيث الطريق الأقصر نحو دمشق، إلى الشمال حيث المكان الأبعد عن العون العربي، وقتل المشروع حين قُتِلت قوى المعارضة العربية السنية (حركة حزم، لواء شهداء سوريا، لواء أحفاد الرسول… الخ) غير المرتبطة بتركيا والتي خاضت معارك السوريين الأولى ضد داعش وتنظيم القاعدة، وذلك نتيجة قطع الإمدادات العسكرية عنها من قبل تركيا فيما كان نهر السلاح يتدفق منها على سوريا. عداك عن الهجمات الدامية التي شنتها القوى المرتبطة بتركيا بهدف القضاء على القوى المدعومة من السعودية والدول العربية والغربية، كما جرى في الغوطة قبل تسليمها للنظام السوري عام 2018.
لا تخسر تركيا، وبالمثل إيران وروسيا في هذا السياق، من هذه "المغامرات" السياسية شيئاً مهماً، فهي بالنسبة لهم مجرد "لعبة" تجري على ملعب السوريين العرب والكرد. فمن ليس من هذه الأرض لن يخسر كثيراً من تجربة أي لعبة سياسية تخطر له؛ مقابل الحصول على عفرين، يسلّم أردوغان الغوطة للأسد، دون أن يهتم أنه بهذا يقضي على بقايا حلم السوريين بإسقاط النظام في دمشق. ينزعج أردوغان من كرد سوريا، ليس لأنهم يشكلون خطراً عليه داخل تركيا، بل لأنهم لا يقبلون تمدد سلطنته عليهم إلى سوريا ويعيقون توجهه جنوباً، فيطلب من روسيا تسليم رأس الكرد لها مقابل القبول ببشار الأسد، ولم لا؟ فلا رؤوس مئات آلاف الشهداء السوريين التي يعرضها الأول على مائدة الروس هم أتراك، ولا الثاني لديه ما يخسره من تقديم ما لا يملك من تضحيات آلاف الشباب الكرد وسنوات طويلة من نضالهم التحرري في صفقة التبادل.
كان الخيار "المنطقي" أمام العرب السنة في سوريا وفي الدول العربية هو الوقوف في وجه المشاريع الإمبريالية الإقليمية، لا أن يبحثوا عن دور لهم في أحدها. إذ لا يمكن للعرب والكرد أن يكونوا إمبرياليين أصلاً طالما أن الحديث ليس عن أفغانستان أو عن أي دولة أجنبية أخرى، بل هو عن سوريا، أرض العرب والكرد، وليس لهم إلا أن يكونوا ضمن المشاريع المحلية السورية التي تضمن عيشاً مشتركاً وحراً للسوريين. وإن كانت قوات سوريا الديمقراطية توصف على أنها تمثيل للمشروع المحلي الكردي، فإنها في واقع الحال تمثل المكان الوحيد للتواجد العربي الفعال وللمشروع المحلي العربي في سوريا.
حين تجري المعركة بين المشاريع الامبريالية على ملعب السوريين لن يعود مهماً بالنسبة لهم الحديث عن اختلافاتها الأيديولوجية، فهي ليست حرباً سورية بين الديمقراطية والديكتاتورية، ولا بين العلمانية والإسلام السياسي، ولا بين التقدمية والرجعية، ولا حتى بين الكفر والإيمان، بل هي حربٌ بين الإمبريالية الإيرانية والروسية من جهة، والتركية من جهة ثانية، أياً كانت لبوساتها الأيديولوجية أو الدينية، تتقاسم علناً الشعب السوري فيما بينها وتحافظ على حصتها لتحول من يقع تحت سيطرتها إلى عبيد يخدمون مصالحها، وبين مشاريع محلية من جهة ثالثة، أياً كانت محركاتها الأيديولوجية، تهدف للحفاظ على جزء (على الأقل) من الشعب السوري من أجل أن يعيشوا لأجل أنفسهم.
فهمت الدول العربية من المبادلات الجارية منذ خمسة أعوام على الأقل بين تركيا وروسيا أن حضور العرب لا يتعدى دورهم كعملة فيها، ولكنها بدل أن تقوم بشكل طبيعي بدعم مشروع الإدارة الذاتية بوصفه مشروعاً محلياً يضم عرب الجزيرة، ومن الممكن توسعته ليضم العرب من مناطق أخرى، اتجهت إلى التطبيع مع النظام السوري، ليس لمواجهة النفوذ الإيراني كما يروج له الإعلام العربي، بل للحد من التطبيع التركي والمبادلات المحتملة منه في سوريا. ورغم ما سيحمله الحد من المبادلات التركية من فوائد على السوريين عموماً، إلا أنه لن يعطي العرب السنة فرصة لإقامة مشروعهم الخاص في سوريا بدل بقائهم وقوداً في مشاريع الآخرين، ويضعهم أمام خيارات يائسة تجعل من تنظيم القاعدة (هيئة تحرير الشام) يبدو أوضحها.