التلقّي السهل، المعلومة عند أممٍ لا تقرأ
مور لوران
يعود الجزء الأعمّ من تعثّر عملية التراكم المعرفي لدى شعوب الشرق الأوسط، إلى أسباب سياسية سلطوية، ساهمت فيها عمليات القسر المعلوماتي الحكومي لتصل إلى قطيعة معرفية عالية في العلوم السياسية، أو الإدارية، أو قراءة التاريخ من وجهة نظرٍ خارجة عن الأيديولوجيا الواحدة للحزب الواحد غالباً. لتسير الشعوب العربية اليوم في تيهٍ حقيقي، في عصر ثورة المعلومات، وانفتاح الحدود الوطنية عبر شاشات الهواتف أمام كمٍّ هائل من البروباغندا العالمية والإقليمية، مؤثرةً في وعي شعوبٍ لا تقرأ، ولا تجيد التفرقة بين المعلومة الصحيحة والخاطئة. بواقع أن الكتاب لم يزل يحمل من الحقيقة أكثر من وسائل المعرفة الأخرى، بحكم توارده عبر الأزمنة، ووجود ضوابط قادرة على تصفية الجيد منه والرديء.
حكاية كارانجيا وموشيه دايان
يصدر صحفي هندي يدعى كارانجيا رستم خورشيجي، كتاباً في العام 1957 أسماه "خنجر إسرائيل"، نشر فيه مقابلة مع الرئيس جمال عبد الناصر، أتبعها بتسريبٍ لنسخة من الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي لعام 1956-1957 مترجمة عن الأصل العبري. أما مقدمة الكتاب فهي خطابٌ تحذيري شامل من كارانجيا للشعوب العربية أن تحذر من عدوتها إسرائيل مشبهاً إياها بخنجر في الخاصرة.
يزور الصحفي المذكور إسرائيل قبل حرب حزيران في العام 1967، ليجري حديثاً مطولاً مع وزير الدفاع موشيه دايان، يشرح فيها الأخير أن إسرائيل ستدمر الطائرات العربية في مرابضها بضربة سريعة، وعندما تحسم السماء لصالحها تنتهي الحرب بانتصار إسرائيل. تساءل كارانجيا باندهاش: كيف تكشفون خططكم بهذه السهولة؟ ليجيبه دايان بعجرفته المعهودة: "أنشر ما شئت فالعرب لا يقرؤون".
بقدر ما تمتلئ مقولة موشيه دايان هذه، بكلِّ صنوف العنصرية، بقدر ما هي دعوةٌ متجددة لتتبع المزاج العربي شعبيّاً ، ودراسة المخاطر الخارجية التي تحيق به، وتبيان خطورة السبل والطرائق الرائجة لاختراق هذا الوعي. فالعرب وبعد مضيّ عقود على مقولة دايان، لا يقرؤون، نعم، فوفق منظمة اليونيسكو إن معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي سنويًا هو ربع صفحة فقط، بينما متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويًا.
العرب لا يقرؤون، نعم، بل ويتابعون الدراما السهلة، ويهضمون بخفّة، كلّ أنواع الدعاية السياسية التي تبثّ على وسائل التواصل الاجتماعي، أمّا تبنّي هذه الأفكار وليدة هذه الوسائل، فأمرٌ شديد اليسر، بوصفك مواطناً عربياً ناقماً على الأنظمة التي تعتبر نفسك رازحاً تحت نيرها، أمّا العشب في حقل الجوار، فياله من غضٍّ وطريّ! وفق المثل المترجم.
هزيمة حزيران وصدمة الحقيقة
ليس ما قبل النكسة كما بعدها، فما فعلته السلطات شرق الأوسطية، كان أقرب إلى عزل شعوبها عن كافة المتغيرات الدولية، بحظر تداول المعلومات، وحصرها بإعلام الحكومة وحده. وإعادة إنتاج الوعي الشعبي بحقنه بشتى المعلومات الموالية للحكومات والمخالفة أحياناً للواقع، ليسوقنا إلى أكبر صدمة على صعيد الشعوب العربية بالذات ككلّ.
ما لا يعرفه البعض أنّ البروباغندا العربية تضخّمت في السنوات التي تلت العدوان الثلاثي على مصر، وترعرعت في كنف أفكار الوحدة والتكامل العربي، وقوة الجيوش العربية التي سادت عصر عبد الناصر في أوجه القومي والشعبوي. حتى جاوزت هذه البروباغندا الحدود، لتخترق إسرائيل ومجتمعها الهشّ ، بل لتصل إلى النخبة ذاتها.
يذكر باروخ نادل، الجاسوس الإسرائيلي صاحب الفضل في نكسة حزيران، في كتابه "وتحطمت الطائرات عند الفجر"، أنّ إشهار القوة وضخّه في الشارع العربي عبر الإعلام، جعل الكيان الصهيوني يضع في إحدى مخططاته النهائية بعد أن تفشل باقي طرق الدفاع عن النفس، تفجير مفاعل ديمونة النووي لتقضي بهذا على إسرائيل وجيرانها جميعاً ومعاً. هذا الانتحار الذاتي، بل والوصول إلى هذه الفكرة دليلٌ على مدى فاعلية البروباغندا العربية بلا ريب.
أمّا الواقع الذي حدث، بعد تطبيق خطة شارون والمذكورة تفصيلاً في كتاب كارانجيا في الوثيقة الاستراتيجية المسربة للجيش الإسرائيلي، أي بعد امتلاك إسرائيل للسماء في نصف ساعة بعد تحطيم سلاح الجو المصري كليةً وفي المرابض، بمساعدة الجاسوس نادل وقدرته على اختراق القيادات المصرية، وإرسال إحداثيات دقيقة لمرابض ومواقيت قيام الطائرات. كان صدمةً مزدوجة للشعوب العربية لم تستفق منها بعد حتى بعد انتصارها في حرب تشرين.
أزمة الثقة
بدأت أزمة الثقة بين الشعوب العربية وحكوماتها، بعد هزيمة حزيران، فكلّ الأحلام التي غذّاها الإعلام الوطني بدا خيط دخان، سبّب صدمةً للمثقفين قبل المواطن العادي، لتبدأ أعراض الانسحاب الثقافي، يعضدها في هذا استمرار السلطة في تغولها الأمني، ومنع المعلومة عن متناول اليد. بل وتحريف التعليم ليتناسب وأيديولوجيا السلطة المختارة. من منّا لا يذكر التناقض في كتاب التاريخ المدرسي الذي يصف صلاح الدين الأيوبي بالقائد العربي العظيم، بينما نعلم جيداً بأنه كرديّ الأصل؟ فقط ليتناسب هذا التحريف مع أفكار حزب البعث الحاكم في سوريا والعراق.
لم يكن تحريف المعلومة السبب الوحيد في أزمة الثقة بين الإعلام الوطني والمواطن، بل ساندته ممارسات مستمرة في عقد حصارٍ على الكتب، ولطالما ارتبطت الاعتقالات السياسية بالبحث عن الكتب أيّما كانت، لتبدأ نواة الخوف من القراءة لدى المواطن العادي. بات الجهل مصدر أمانٍ، هذا الجهل الذي يسوقنا اليوم إلى التلقي السهل لأية معلومة من خارج الحدود.
عشب الجوار المتمدد
بوصفك مواطناً شرق أوسطياً، لم تسمح لك الأنظمة في الثمانينيات بحرية المعرفة، ليست ثورة المعلومات اليوم سوى غرقٍ في بحر بلا قرار، من متشابهات يصعب فيها التمييز. فأين تكمن الحقيقة؟ مئات مقاطع الفيديو تتدفق على هاتفك الجوال، فضلاً عن عديد المواقع التي تدعي المعرفة، والأخبار المتوالية من سمين وغثّ. لن تلحظ بسهولة تكرار مقاطع فيديو بعينها، وتدفق صورٍ مرفقة بمعلومة واحدة مكررة سوى بعد تمحيص شديد.
لماذا يصلك نفس الفيديو في يوم واحد من جهات عدة؟ وما الذي يحكم دوران هذه المعلومات المحرّفة في معظمها؟ ومن يدسّ السمّ في الدسم؟. في سوقٍ عالمية مثل الإنترنت لن تعرف غريمك، فهو أداة للعولمة لا مبرر لمقاومته، لكن مكمن الخطورة هو في استخدام جهات إقليمية لهذه الأدوات، لبثّ دعاية سياسيةٍ تخترق مجتمعات أخرى، وتقنعها بأنها أنظمة مثالية وناجحة سياسياً واقتصادياً بل وأخلاقياً.
وما مقاطع الفيديو التي تمجّد أردوغان، والصور المرفقة بمعلومات مضللة عن تركيا وتاريخها المجيد، سوى لعبٍ على المشاعر الدينية لدى الجمهور العربي، بل أبعد منه إلى باكستان وإيغور الصين، التي تحفل بيوتها بصور معلّقة لأردوغان، الخليفة الجديد في المخيال الشعبي. وصل كل هذا عن طريق أدوات العولمة من وسائل تواصل اجتماعي، مرتبطة بآلة المال السياسي التركية.
لا يدرك الفرد العادي أنّ وراء أيّ مقطع بسيط لأمجاد ونجاحات أردوغان، شركات كبرى تقود تسويق هذا المنتج ليناسب وعي المواطن المتدين العادي في دولة عربية مجاورة. وأنّ المال الأخواني الخليجي المساعد يدخل في صلب المعلومة البسيطة التي يقدمها مقطع الفيديو على الواتس أب والفيس بوك وسواه. ولا يدرك خطورة تجاوز الخط الوطني لتمجيد دولٍ مجاورة شاركت في تخريب بلده ذاته كما كان الحال في سوريا.
الأدلجة عن طريق المعلومة المحرفة
قد يجادل البعض، بأنّ مشكلة المعلومات المضللة أزمة عالمية غير مختصّة بالشرق الأوسط وحده، وأكاد أوافقه على هذا سوى بالتناسب في الرؤيا. فالشعوب التي تقرأ وقرأت عبر مسيرتها، لم تزل على درجة من المعرفة تتيح لها التفرقة بين بعض الشؤون المضللة الخطيرة وسواها، على خلاف الشعوب التي جهلتها الأنظمة الحاكمة بشكل قسري ومقصود.
أمّا الخطورة الثانية فهي في أدلجة المعلومة، واللعب على وتر المشاعر الدينية والمقولات الجاهزة، يساعدهم في هذا ظروف القهر التي تعيشها الشعوب العربية، بعد فشل حكوماتها في صنع مستقبل اقتصادي ملائم لثرواتها. لقد ساهمت صناعة المسلسلات التركية في تحريف حقائق التاريخ ذاتها في سيرورة خطرة احتلت وعي المواطن العربي.
في مقطع فيديو قد يصنعه مراهق، قد تمحي بطرفة عين تاريخاً تداوله المثقفون ودرسه الدارسون لابن إياس مثلاً، وهو يصف أحداث دخول سليم الأول لمصر، وكمية المآسي التي مرّ بها المصريون في العهد العثماني. وقد نمحي تاريخ ابن طولون الذي عاصر حدث دخول سليمان القانوني دمشق، وتحدث عن الفظائع التي تلت هذا الاحتلال.
تاريخ تركيا الأسود في البلاد العربية والمسطور على متون الكتب، تمحوه اليوم سهولة التلقي بل والاعتناق، وعدم معرفة الشعوب عدوها لهو أعتى صنوف الجهل فقد يعني في طورٍ ما فناءك. معادلة بسيطة في الحياة لم يفهمها مجايلو نكسة حزيران، فهل نحن على أبواب نكسة أخرى؟