الدول الصغيرة المتخيلة

الدول الصغيرة المتخيلة
العمل الفني للفنان الاسباني José Guerrero

مور لوران

في كل عامٍ تعترف الأمم المتحدة بأعضاء جدد، وهذا مؤشر إلى تفكك متواتر لدولٍ إثر دول، تنشأ عنه دولٌ صغيرة تحفل بالتناقضات، وصفها يوماً باكونين، الثوري الروسي الشهير بـ "ضحايا الدول الكبرى".
بدءاً من كردستان التي تجاهلتها خرائط سايكس بيكو، لتبقى مقسمة بين أربع دولٍ، مروراً بكشمير التي فصلتها بريطانيا عن الهند بصفقة بيعٍ نقدية مخزية، وليس انتهاءً بالصحراء الغربية ضحية إسبانيا، تتواتر الحكاية الثورية، وتتراوح بين الواقعية السياسية لبعضها، والغلوّ الثوري لبعض المشاريع في سواها، لتقود إلى بؤر صراعٍ محتملة، تتورط فيها قوى عبر وطنية، وتنسلّ ضمنها مصالح إقليمية عديدة.
أمّا لدى انجلاء الحلم، وقيام دولة صغيرة ما، وفق المتخيّل المأمول من شعوبها، فأمامنا من الأخطار التي تحيط هذه الدول الصغيرة، ما يخرجها من مصافي الدول القريرة، والقادرة على احتضان مشروع كاملٍ للدولة. ولنا في لبنان عبرة كما يسرد ديفيد هيرست في كتابه الأخير. أمّا هنا فسوف نناقش حالات الحَبَل بالدولة الصغيرة لا ولادتها من رحم قرارات دولية، وندرس ثلاثة أمثلة ذُكرت أعلاه، ونتتبع مآلاتها المحتملة.

الفردوس المفقود

ليست كردستان في المخيال الكردي دولةً ذات حدود، عكس باقي الشعوب التي تتخيل حدودها قبل كل شيء. فلو أمكن للذكاء الاصطناعي أن يرصد دماغ أيّ كرديّ لدى لفظ كلمة كردستان، سوف يجد صورة جبال عاليةٍ خضراء، تقف شامخة أمام سهول شاسعة تحت سماء زرقاء وشمسٍ متقدة، وقطعان ترعى بين أعطاف هذا الجمال. لكنك لن تجد الحدود التي تمنع الآخرين من مشاركتك هذا الجمال والخير. ذاك هو الفردوس المفقود.
كذا تبدأ بعض الدول من تراكم أحلام شعوبها، ويبنى بعضها الآخر بقرارات دولية، كما حدث في حالات الانسحاب الاستعماري. لتستمر عبر خلق حلم جديد لها، تسير عليه لبناء موطن يحمي جماعةً ما، لديها مصالح مشتركة في العيش معاً. هذا التخيّل حقق الكثير من الدول في أوربا، لقد تواصل الحلم حتى غدا حقيقةً قائمة، لكنه أخفق في أماكن أخرى بناءً على ظروفٍ لا وارد لذكرها هنا.
أمّا الدول الصغيرة في طور التخيل السياسي، فهي دولٌ لم تحظَ بفرصة الاستقلال بعد، لكنها تنحو إليه بفعلٍ ثوريّ مستمر عبر عقودٍ، كما هو الحال في كردستان وكشمير مع اختلاف الحالتين بل وتعاكسِهما. ففي حين أنّ كردستان المتجانسة قوميا،ً قُسِّمت بمسطرة بين دولٍ أربعةٍ مختلفة عنها قومياً ولغوياً بل وإنسانياً لما عاناه الشعب الكرديّ من اضطهاد قائمٍ من الأنظمة المسيطرة في هذه الدول. نجد أنّ كشمير تحاول الانفصال عن وطنها الأمّ المتجانس معها قومياً وجيوسياسياً، بل ونجد أن مشروعها ذاته ينقسم ضمن الأحزاب في اتجاهات ثلاث، البقاء جزءاً من الهند، أو الانضمام إلى باكستان، أو الاستقلال التام.

الحلم والواقعية السياسية

بعد إلغاء معاهدة لوزان التي اعترفت بوطن قومي للأكراد، فُرضت على الشعب الكردي معاهدة سايكس بيكو، لتقسم فرنسا وبريطانيا مواطن الأكراد إلى أربعة أجزاء. أمّا كشمير فكانت نتاج مغامرة بريطانية قبل الانسحاب من درّة التاج الاستعماري، الهند، لتبيع بريطانيا كشمير إلى المهراجا جولاب سينغ في العام 1846 بمبلغ سبعة ملايين ونصف روبيه! ويبدأ حلم استقلال مفاجئ دون مقومات دولة واضحة، وتصبح فيما بعد بؤرة صراعٍ بين الهند وباكستان.
تكمن المفارقة في أنّ طبيعة كشمير صنوٌ ليس ينفصم عن طبيعة كردستان، لكلا المكانين صفة الفردوس المفقود، جنةٌ من الينابيع المتدفقة والجبال الخضراء والسهول الواسعة. لكن الطبيعة السياسية تختلف إلى حدّ التضادّ الكليّ. يعود هذا إلى عوامل عدة، منها نضج الحركة الكردية سياسياً، وواقعيتها المفرطة. مقابل اعتماد الكشميريين على أحلام متخالفة لا يقارب أيٌّ منها الواقعية الصانعة لأوطان مستقرة.
لقد تخلت سائر الحركات السياسية الكردية في غالبيتها عن مطلب الاستقلال التام، بل لعله منذ البداية مطلبٌ يستخدم سلاحاً للتفاوض، أما في قلب الحركة السياسية لن تجد سوى مطالبات بالحكم الذاتي والبقاء ضمن نسيج الدولة الأمّ بشرط اللامركزية. يدرك الأكراد جيداً أن لا مستقبل للدول الصغيرة، ضمن نسيج معادٍ كلياً لقيام هذه الدولة، فضلاً عن افتقار كردستان لأي منفذ بحريّ أو جوي نافذ يدعم استقلالية اقتصاد الدولة الحلم.
عركت السياسيين الكرد تقلبات السياسات الدولية ، ومنحتهم حكمة الخشية من دولٍ صغيرة ترقد على ثروات نفطية ومائية مثل دولتهم. ليبدأ النضج السياسي منذ عقود نحو البقاء ضمن دولها بشرط الاحتفاظ بالحكم الذاتي، كما كانت كردستان عبر التاريخ. منذ أيام الدولة الرومانية والامبراطورية العربية وما تلاهم. حتى عبث الاستعمار الأوربي بالمنطقة، وصنع دولاً هبطت بالباراشوت على شعوب الشرق الأوسط.

خفايا استفتاء استقلال كردستان

قد يشارع البعض الكلام السابق، بذكر استفتاء الاستقلال في كردستان العراق في العام 2017، دون الانتباه إلى الظروف الجيوسياسية التي رافقت هذا الاستفتاء. فهل فعلاً طالب الأكراد بالاستقلال؟ أم أنّ ظروف تسليم كركوك بقرار دولي لم يظهر بعد للعلن؟ لفهم ما حدث علينا قراءة أمرٍ بسيط، هو التأريخ ! دعا القائد مسعود البرزاني إلى استفتاء الاستقلال بخطاب مقتضب لا يخلو من مسحة حزن واضحة على محياه. لتجري عملية الاستفتاء في 25 أيلول 2017، بعدها مباشرةً في 17 تشرين الأول 2017 سيطرت دولة العراق على كامل كركوك بعد انسحاب قوات البيشمركة.
ذلك التواقت بين العمليتين يوضح أنّ كركوك سلِّمت باتفاق واضح، وتنازل واقعي من قبل الأكراد لتجنب الحروب، كركوك شريان كردستان النفطي، وأساس الاقتصاد القائم فيها. أما الاستفتاء فكان تظاهرة غطّت على هذا التسليم المتواقت، في وقت احتاج فيه الأكراد إلى التعاضد القومي والشعور الجمعي بالقوة الذاتية. كانت نتيجة الاستفتاء بـ 92,73% مظلة حمايةٍ وطنية نفسيّة جمعت الإقليم الذي فقد جزءاً عزيزاً منه. ويحيا ظروف حكم ذاتي ضمن دولة أكبر شبه فاشلة هي العراق، رغم هذا يتمسك بها الإقليم حتى بعد هذا الاستفتاء القوي، خوفاً من شبح الدول الصغيرة الضائعة في تفاصيل صراعات الدول الكبرى.

مغامرة الانفصال (الصحراء الغربية- كشمير)

على عكس حالة كردستان، تسعى كشمير والصحراء الغربية، إلى إجراء استفتاء للانفصال كلياً، في وقت لا تمتلك فيه كلتاهما مقومات قيام دولة حقيقية، في مغامرة سياسيةٍ تفتقر إلى الواقعية، فحالة الصحراء الغربية ورغم اعتراف عدة دول بها، وانضمامها إلى الاتحاد الأفريقي، لا تحتمل قيام دولة مستقلة. دولة بمساحة 266 ألف كم مربع، بعديد سكان لا يتجاوز 341 ألف نسمة، قائمة على صحراء شاسعة تفتقر إلى ما يكفي من الأمطار لاستمرارية الإنتاج الزراعي، تعتمد في دخلها على الصيد، الفوسفات، أما باقي المواد الغذائية فهي قادمة من المغرب (الدولة المعادية) أو من الخارج. كلّ هذه العوامل لا ترفع مؤشر التفاؤل بقيام دولة صغيرة ناجحة.
أمّا حالة كشمير فهي واضحة بمقارنة بسيطة بين كشمير الهندية، وكشمير الباكستانية، إن كشمير الهندية وتقدر مساحتها بنصف مساحة كشمير الباكستانية وربع عدد سكانها، تتمتع بناتج قومي إجمالي يجاوز 8,5 مليار دولار، بفضل دعم الاقتصاد الهندي القوي والمدعوم باستثمارات أجنبية، في ولاية تحتاج إلى استيراد كل شيء من الإبرة إلى الشاحنة. في حين تعيش كشمير الباكستانية وضعاً سيئاً بعد أن أهملت في ظلّ فترات عدم الاستقرار السياسي في باكستان، والتركيز على الخلافات والحروب مع الهند والإنفاق على التسلح، لتحظى بخطط تنموية تقل عن 500 مليون دولار فقط لا غير !
تشير بوصلة الدول الصغيرة المتخيلة دوماً للاصطفاف ضمن دولة قوية، تحميها اقتصادياً وسياسياً، في مناطق غير مستقرة من العالم عموماً. أمّا إذا أخطأت هذه البوصلة واختارت وقتاً غير ملائم للاستقلال، بفعل حلمٍ قوي ضاغط على المخيلة، كما هو الحال في الصحراء الغربية التي أسرف قادتها في الاعتزاز بالتحرر الذاتي من الاستعمار الإسباني، ليتحول هذا الاعتزاز إلى عنادٍ يفقد هذه المناطق أمنها سنوات طويلة. فإننا نقع أمام نماذج متخيلة فاشلة حكماً تفتقر إلى الواقعية والمحاكمة الجيوسياسية الدقيقة. فافتقار هذه الدول إلى بنية اقتصادية وسياسية قوية لتشكيل دولة مستقلة، عنصر أساسي في اتخاذ قرارات الانفصال.

سياحة الصراعات

تتحول الدول الصغيرة المتخيلة حكماً، إلى بؤر للصراعات الدولية، ولنا في كشمير عبرة. كانت كشمير دائماً موضع خلاف بين باكستان والهند حتى قبل الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، وبموجب خطة التقسيم المنصوص عليها في قانون الاستقلال الهندي، كان لدى كشمير الحرية في اختيار الانضمام إلى الهند أو باكستان. واختار وقتها حاكمها هاري سينغ، الهند، فاندلعت الحرب في العام 1947 واستمرت مدة عامين. تلتها حرب أخرى في العام 1965، في حين خاضت الهند صراعاً مريراً مع قوات مدعومة من باكستان في عام 1999.
بعد أن كتم هذا الإقليم موئلاً شهيراً للسياحة، تحول إلى نوع آخر من مجال للصراعات الدولية. بل نقطة الصفر لسباق جيوسياسي جديد من أجل النفوذ. ترى واشنطن مثلاً في قضية كشمير صراعاً مداراً لمصلحتها الخاصة بدلاً من مشكلة تعوز الحلّ! فدخول الصين إلى شمال كشمير عبر مبادرة الحزام والطريق، تجده واشنطن تحالفاً استراتيجياً غير محمود بين باكستان والصين، غير خشيتها من حدوث أيّ تقارب بين الهند والصين، وترى في هذا الإقليم مجالاً لفرض نفوذها.
بالإضافة إلى تورط القوى عبر الوطنية، يمكن رصد دور القوى الإقليمية في كشمير عبر دخول قوى راديكالية إلى المنطقة، فرغم أن إسلام كشمير هو نوع متجذر محلياً من الإسلام الصوفي القابل للتعايش مع الأديان والطوائف المتنوعة، إلا أنّ تدخل قوى إضافية في المعادلة أدى إلى انتشار الشكل الأصولي للإسلام، وسبّب احتكاكات طائفية بحرق الأضرحة الصوفية على سبيل المثال. لقد قامت جماعات إسلامية مدعومة من باكستان بالعمل على تطرف الشباب في الإقليم.
أما السلطات التركية _وضمن طموحات أردوغان ليكون خليفة المسلمين في العالم_ تؤسس جماعات إسلامية مهمتها جذب رجال الدين والشباب وعالم الأعمال والفكر في كشمير. أمّا تزايد الشيعة في كشمير فمردّه إلى نشاط إيراني ملحوظ، تواجهه السعودية بضخ مبالغ ضخمة في كشمير لنشر السلفية، واليوم، من بين سبعة ملايين شخص، هناك حوالي 1.6 مليون من السلفيين. بفضل النشاط السعودي.
السؤال اليوم هو هل سوف تستخدم هذه الدول المتطرفين الذين تربيهم في كشمير، ضد بعضهم البعض؟ أم ضد الهند؟ وكيف سوف يتحول واقع كشمير المزدهر اليوم اقتصادياً إذا ما بدأت الحروب بالوكالة في هذا الفردوس من الجمال؟
مثالٌ بسيط لكنه على أعلى درجات الأهمية، لدول صغيرة تحلم بالانفصال، لكن تعوزها العقلانية في فهم مقومات الدولة والقدرة على إدارتها وحماية شعوبها من نفوذ قوى تقودها نحو الخراب النهائي.