التنظيمات الجهادية في النزوع إلى شكل الدولة
جوانا محمود
لا يقود التوليف بين الماضوية ومفهوم الدولة الحديثة، إلى منظور كياني متماسك كما يبدو ظاهراً اليوم في تجارب الدول القائمة على أساس الشرعية الدينية، فالجمع بين مفاهيم حديثة تقودها أيديولوجيا غيبية، لا يسوقنا بالضرورة إلى دولةٍ "ممكنة"، ولا يصنع سردية متماسكة يجوز الاعتماد عليها أو فرضها على الشرعية الدولية.
وفي أفغانستان اليوم مثالٌ على صعوبة حضور دولةٍ يقودها تنظيم جهاديّ ضمن المجتمع الدولي القائم، بدليل عدم اعتراف سوى دولة واحدة بحكم طالبان وهي باكستان، أمّا الدول الأخرى فترفض الاعتراف بحكم تنظيمٍ يعتبر حاضنةً للإرهاب، بل أنّ حتى علاقة باكستان اختلفت اليوم بحكم تصدير أفغانستان الجماعات المتطرفة عبر حدودهما المشتركة إلى الداخل الباكستاني.
يبقى الشكل الحالي، حالةً مؤقتة لحكم تنظيمٍ واحد لدولةٍ كانت جزءاً فيما مضى من المجتمع الدولي، حتى استولى عليها تنظيم واحد يتّصف بالاستبداد المطلق، لتفقد الدولة شكلها الأساسي، وتبقى أرضاً لتصدير الجماعات المتطرفة إلى أنحاء العالم. ويقف المجتمع الدولي حائراً أمام ظاهرة جديدة في التاريخ المعاصر، وهي ظاهرة "التنظيم-الدولة".
التنظيمات الأولى والحجر الأسود
لم تتوقف التنظيمات المجابهة لسياسة دولةٍ ما منذ عهد الخوارج، عن التطلع إلى الاستيلاء على جسم الدولة، وتطويعها وفق منظورها الأيديولوجي الخاص. أمّا استخدام العنف فكان أسلوباً مشتركاً بين هذه التنظيمات عبر التاريخ الذي يحفل بمشاهد لهذا العنف، نذكر منها حكاية الحجر الأسود.
كانت حركة القرامطة من أولى التنظيمات الإسلامية التي أنشأت دولة، إثر ثورةٍ اجتماعية سياسية ضد الدولة العباسية في عهود ضعفها، لتؤسس دولةً في البحرين على أسس مساواتية اشتراكية ليعتبرها الباحثون أولى الحركات الاشتراكية في العالم.
يحفل تاريخ القرامطة بحروب متعددة ضد السلطة، كان أشهرها حادثة سرقة الحجر الأسود، عندما قام أبو طاهر القرمطي بغارة على مكة "والناس محرمون" واقتلع الحجر الأسود وقتل عدداً كبيراً من الحجاج، ليحتفظ القرامطة بالحجر الأسود مدّة اثنتين وعشرين سنة.
لم تكن سرقة الحجر الأسود فعل عنف ضد الإسلام بذاته، كونه رمزاً مقدساً للمسلمين كافة بمن فيهم القرامطة، إنّما كان رمزاً للاستيلاء على السلطة، وتغيير موازين القوى نحو أيديولوجيا جديدة ، ورغم أنّ الإسلام في العصور الأولى كان شكل الحكم الساري، إلا أنه لم يسلم من التفاسير المختلفة، فالإسلام فضفاض والقرآن حمّال أوجه عندما يستخدم سياسياً.
مملكة منعزلة
في العهد الحديث كان مثال داعش، أول تجربة لتأسيس دولة ضمن دولة ضعيفة_كما كان حال دولة القرامطة_ ويمكن اعتبارها حالة فريدة ضمن التنظيمات السابقة عليها والتي اكتفت بشكل التنظيم الذي يسعى للاستيلاء على السلطة في دولة ما، ونشر الأيديولوجيا الخاصة به عبر العنف في باقي أنحاء العالم كما هو حال القاعدة.
لقد سارت داعش بالحلم إلى نهايته، قامت بتأسيس دولة العراق والشام، وكان لها جيشها وعلمها بل وصكّت عملةً نقدية خاصة بها، وأسست بناء إدارياً ومصرفياً مثيراً للإعجاب، معتمدة على خبرات جامعيين مؤهلين. لقد أسست داعش دولةً ضمن دولة متجاهلة السعي إلى الاستيلاء على الدولة الأساسية، إنما اكتفت بضمّ الأراضي أو لنقل "فتحها" تماماً كما كان الحال في عهد الإمبراطورية العربية.
ماذا لو استتبّ الأمر لدولة العراق والشام؟ وهل وصول طالبان إلى السلطة يعطي النتيجة ذاتها؟ تقول الوقائع أن لا فرق كبيراً بين كلا الواقعتين، فسلطة الأمر الواقع شأن جديدٌ في العالم، لكنه يقود إلى صنع "مملكة منعزلة" بدليل وقوع طالبان في براثن التجاهل من المجتمع الدولي، واعتراف دولةٍ واحدة هي باكستان بحكم طالبان لا يفكّ عزلتها، بل أنّ هذا الاعتراف يقف اليوم على كف عفريت لأسباب تتعلق بصناعة الإرهاب ذاته.
تبدلات العلاقات الباكستانية-الأفغانية
يحيلنا التطرق إلى العلاقات الباكستانية بحركة طالبان، إلى حقيقة استمرت على مدار عقدين ما بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، وهي كمية الدعم اللوجستي والأيديولوجي الذي قدمته باكستان لأعضاء الحركة، ليحدث تحوّل لافت في العلاقات بعد وصول طالبان إلى سدّة الحكم في العام 2021، فشبح تحريك طالبان باكستان والذي ساهمت إسلام آباد نفسها في صناعته، ينقلب اليوم نحو الداخل الباكستاني في إحدى المفارقات التاريخية الفجة والمقلقة.
يوم الأربعاء الماضي هاجم مئات من مقاتلي تحريك طالبان باكستان TTP قوات حدودية متواجدة على الحدود مع أفغانستان، ليستمر تبادل إطلاق النار ساعات أربع ويقتل أربعة جنود باكستانيين في قتال استمر حتى الفجر. بينما أعلنت الحركة سيطرتها على موقعين عسكريين في منطقة بومبوريت في شيترال. لقد قامت تحريك طالبان باكستان بنحو 282 هجوماً في العالم 2021، إضافة إلى 42 هجوماً خلال العام 2022 وهو عام الهدنة بين الدولة الباكستانية والحركة.
شهدت العلاقات بين باكستان وحركة طالبان حالة من التوتر المتزايد خلال الأشهر الماضية بعد استمرار عمليات تحريك طالبان باكستان في غرب باكستان، ورغم أن حركة طالبان تعمل دوماً وسيطاً في عمليات التفاوض بين الدولة الباكستانية وبين تحريك طالبان باكستان، إلا التاريخ الطويل للدعم باكستان لحركة طالبان الأفغانية لم يشفع في ضبابية العلاقة بينها وبين شبح باكستان الجديد الذي ارتدّ عليه اليوم بعد عشرين عاماً من دعم عمليات طالبان ضد الغزو الأمريكي.
آفاق اللادولة
يشهد المجتمع الدولي للمرة الأولى في تاريخه وصول تنظيم جهادي إلى سدّة الحكم، وهو حركة طالبان, وأسئلة ما بعد عدم الاعتراف بهذا الكيان لا زالت مدغمة وضبابية، فأمام الدول خياران، إما الإطاحة بطالبان كما فعلت مع داعش، وهذا ما كان أمراً شديد الصعوبة مع طالبان على مدار عدة عقود، أو قبول الأمر الراهن والاعتراف بهذه الدولة ضمن شروط معينة.
إن تدجين تنظيمٍ على هذه الدرجة من الخطورة قد يدخل ضمن قائمة الممكن بالدخول في خضم مغامرات اقتصادية في أفغانستان، أو استبدال دعم الإرهاب بمشروع مارشال جديد تدريجي، ولأن طبيعة التنظيم لا تتغير أيديولوجياً بالسهولة التي يعتقدها باقي الدول فالأولى التوقف عن استفزاز هذا التنظيم بالتدخل في الشأن الداخلي، كما كان الحال في دول الخليج سابقاً ! فالقيود المفروضة على النساء في أفغانستان وقرارات منعهن من ارتياد المدارس والجامعات أو العمل أمر داخلي يترك للتنظيم، حتى تنضج الشروط الموائمة للتفكير في الحريات المجتمعية.
أمّا بقاء طالبان مملكة منعزلة على هذا القدر فسوف يبيح صناعة الإرهاب واستمرار تصديره حتى إلى دولٍ كانت الداعم الأكبر لها في فترة جهادها مثل باكستان. ليقودنا إلى صيغة اللادولة وهي أخطر الصيغ على القانون الدولي. صيغة حائرة تقف على أعتاب ماضوية انتهت مرحلتها التاريخية، لتدخل عنوة ضمن نسيج دولي جديد يصعِّب من أمر قبولها ضمن هيئاته.
خاتمة
يبقى حلم الدولة يراود التنظيمات الجهادية، سواء بالاستيلاء على دولة قائمة أو صناعة دولة داخل أخرى ضعيفة هشة كما حصل في الشرق الأوسط. وتبقى لعبة دعم هذه التنظيمات من قبل دول ضد دولٍ أخرى، من أكثر التصرفات خطورة بدليل عودة هؤلاء الإرهابيين إلى بلادهم الأصيلة لتطبيق ما عكفوا على تعلّمه هناك. على المجتمع الدولي التوصل إلى حلول تدجينية واضحة خلافاً لحالة الرفض القائمة.