الإنسانية بوصفها أيديولوجيا: محاولة للبحث عن مفاهيم خارج المفاهيم
يونس الهديدي
ذ، فلسفة. المغرب.
مقدمات أولية: إسرائيل من الاحتلال الجغرافي إلى الاحتلال القيمي.
ينهض تمثل الدِّفاع على مفهوم السِّلاح بوصفه مُشوّهًا للفضاء المكاني، كذلك هي الأيديولوجيا من خلال كونها فعلًا تشويهًّا للواقع. إن هذا الأفق من الوعي لم يكن ليغيب عن أمثال " كارل ماركس"، فالإنسانية من جهة كونها تحديدًا يحتفل بالسِّلم تبدو إنسانيةً مثيرة للشفقة. ذلك لأنها تفتقر لآليات الدفاع عن نفسها، وبمجرد نطق كلمة دفاع تسقط في التحديد الآنف الذكر للأيديولوجيا. لقد شكّلت الإنسانية على الدّوام أفقًا وخط وصولٍ تستريح خلفه كل الأسلحة، فهي ما لا يُدرك وإن حدث وتم إدراكها سرعان ما تتلاشى في التباين الوحشي والغابوي الذي سيظل الإنسان حاملًا له إلى النهاية.. إلى آخر إنسان.
تحضرني الآن، وأنا أحاول التمّرد على الأشياء والكلمات على الدال والمدلول، قصائد شعراء اتخذوا الطفولة أفقًا لنصوصهم، وليست الطفولة في مِخيالهم الشِّعري سوى تلك الإنسانية المستحيلة.
"ذلك الطّفل الذي كنتُ
أتاني مرّةً وجهًا غريبًا.
لم يقل شيئًا.
مشينا وكِلانا يرمقُ الآخرَ في صمتٍ."
أدونيس.
يضح في المقطع أعلاه، ذاك التمزّق الهوِّياتي الذي تخلقه الطفولة بوصفها أفقًا خارج الأيديولوجيا. إنها الغربة بعينها والصمتُ المُريب الذي يضرب بظلاله في عالم أشدّ حياديّةً مِن الحيّادِ نفسه. مع أن الشِّعر قد يبدو في تحليله الأخير ضربًا من ضروب الوهم إلا أنه يترجم حالة العجز في السقوط على مسمّى الإنسانية، فوحده قادر على إدراكها من خلال توسّل الوهم، وكذلك تفعل الأيديولوجيا.
شكّلت النزعة الدينية والقومية وحتى الفكرية غلافًا للوهم الشِّعري ذاك، ولكنها من خلال استقرائنا للتاريخ لم تكن نسقًا مستقلًا أكثر من كونها مجرد آلية للدفاع عن قضايا تبدو إنسانية في عمقها. ويمكن أن نضرب مثالًا من لحظتنا الراهنة على تأملي هذا لمفهوم الإنسانية، وليكن القضية الفلسطينية والتي عمّرت طويلًا ولم تجد بعدُ طريقها للحل ولربما لن تجد.
إن هذه القضية في صميمها قضية إنسانية صرفة، ولا مراء في ذلك، بحكم أن الإنسان هو الضحية فيها. ولكن التعامل معها بوصفها قضية إنسانية يجعلها عزلاء من آليات الدفاع عن نفسها. إذ، نجد جميع محاولات النظر إليها بوصفها قضية إنسانية خَلقتْ عُنفًا أحاديًا من طرف المحتل تاريخيًا، ونقصد بالأساس أطروحة حل الدولتين في الحد الأدنى، و التي تستند على قرار الأمم المتحدة 242 الصادر عن مجلس الأمر في الثاني والعشرين من تشرين 1967 والذي يقضي بمعادلة " الأرض مقابل السلام" ( البرنامج السيّاسي المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الدورة 12 )، من جهة كونها حلًّا تقنيًّا يقضي بقيام دولة فلسطينية مستقلة - النص لا يحمل دعوة صريحة لقيامها - على الأراضي المحتلة عام 1967 . أما فلسطين التاريخية الجانحة للسِّلم الإنساني، فلم تكن لتكون هدفًا للاحتلال لولا غياب الحماية الأيديولوجية، شأنها في ذلك شأن جميع الدول التي ألحقتها الإمبريالية العالمية باللائحة على مر التاريخ. ولأننا لا نريد أن يفتح لنا هذا المِثال بابًا لاستعراض تاريخ القضية الفلسطينية، وبطون الكتب تغص بذلك. فإننا نبرر توجيهنا أنظار القارئ لهذا المثال قصد افتحاصه؛ بالخلاصة التي تصدر عنه، من جهة كونها مُسوّغاً لقولنا: أن أدلجة القيّم هو ما يمنحها حياةً واقعيةً تتعالى عن المثاليّة المثيرة للشفقة، وقد يسعفنا الفيلسوف الألماني فريديك نيتشه في تصورنا هذا، من خلال عملية القَلب الماثلة في كتابه " جنيالوجيا الأخلاق".
إن التوازن الصِّراعي من هذا المنطلق يولد على الدوام من رحم العنف والعنف المضاد. لذلك بدت قضية فلسطين موضوع المثال في راهنها طبيعية داخل التّقاطب الأيديولوجي المقسم لبنية فلسطين الداخلية. وكذا، طبيعيّةً في التدافع "الصهيو – فلسطيني" حيال الشرعية التاريخية للأرض. والأيديولوجيا الدينية منظورًا إليها كعقيدة حربية لدى حركة " حماس" على سبيل المثال تبدو ضرورة مُلحّة بالنسبة لهذه الحركة، لسبب واحد وهو: حماية ما تبقّى من إنسانية نعود ونكرر.. إنسانية تبدو مثيرة للشفقة في غيّاب عقيدة تجعل المهزوم يتقنع بقناع الضحية.
لا عدل إلا إن تعادلت القوى *** وتصادم الإرهاب بالإرهاب.
أبو القاسم الشّابي
هذا البيت الشّعري الذي يربط فيه الشّابي بين قيمة العدالة وبين الإرهاب، ليستْ دعوةً مبطنة للعنف بقدر ما هي دعوة لتملّك القضايا الإنسانية لغلاف أيديولوجي حامٍ لها.
خلاصةُ القول يبدو فهمنا للأيديولوجيا أيديولوجيًّا تشويهيًّا هو الآخر، من جهة كون الإنسانية في تمثلنا مفهوم بارد منزوع الدسم " كيوت" كما يقال؛ إنسانية تنهض على اللاعنف الذي ينحدر بجميع القيم الإنسانية ويُطوِّح في آخر المطاف بالإنسان.