العقد الاجتماعي الجديد لإقليم شمال وشرق سوريا

العقد الاجتماعي الجديد لإقليم شمال وشرق سوريا

ابراهيم خليل

بعد تحضير استغرق أكثر من ثلاث سنوات, أقرَّت "الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا" بتاريخ 12/12/2023 عقداً اجتماعياً جديداً مكوناً من 134 مادة موزعة على أربعة أبواب. شملت تلك المواد تنظيم الشؤون الإدارية والسياسية والنقابية والمجتمعية لجميع القاطنين في منطقة شمال سوريا وشرقها وبالتحديد المنطقة الواقعة تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية".
بغضِّ النظر عن الوضع السياسي القلق في شمال- شرق سوريا بسبب التهديدات التركية المستمرة بالاجتياح العسكري, تفتقر الإدارة الذاتية إلى أي اعتراف سياسي من أي جهة داخلية كالنظام السوري أو معارضته أو خارجية كالأمم المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبرها شريكاً عسكرياً في مكافحة الإرهاب, فضلاً عن أن اعتراف مجتمعها المحلي ذاته بها تشوبه شوائب كثيرة ألقت بظلالها على شرعية هذا العقد ومدى إمكانية حصوله على الشرعية الشعبية المنشودة.
من حيث الشكل, تشير لغة "العقد الاجتماعي" وأسلوب كتابته إلى المرجع الذي اعتمد عليه كتبة هذا العقد وهو الدستور السوري (المترجَم تاريخياً عن الفرنسية) بشكل رئيسي فضلاً عن التشابه الواضح بينهما في الأفكار العامة للمحتوى مع اختلافهما في بعض التفاصيل.
أقرَّ العقد الاجتماعي الجديد تسمية "الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا" التي تضم سبع مقاطعات لتتحول تسمية "روجافاي كردستان" الرومانسية, بعد انتهاء وظيفتها, إلى جزء من الماضي لا تكاد تسمعه سوى على ألسنة بعض الكتّاب والشعراء.
يقابل مصطلح "العقد الاجتماعي", المأخوذ عن "روسو" والذي تبنته الإدارة الذاتية, مصطلح "الدستور" في أعراف الدول القائمة أي إنه المرجع الرئيس والأعلى لجميع سكان المكان من سلطة ومعارضة وديانات وإثنيات ورجال ونساء, وعلى الجميع احترامه والالتزام به. أما ما الذي منع الإدارة الذاتية من استخدام كلمة الدستور فأعتقد أنه السبب ذاته الذي اضطرها إلى تسمية وزاراتها بالهيئات وجيشها بالقوات ومدنها بالمقاطعات.
سنعتبر هذا العقد دستوراً وليس بياناً سياسياً أو نظاماً داخلياً لحزب وعلى هذا الأساس سنسجل عليه بعض الملاحظات:
- العقد الاجتماعي ينظم العلاقة بين المواطن والسلطة على مبدأ (لك حقوق ويمكنك ممارستها ولكن بما يتناسب مع قيم الأمة الديمقراطية) أي إنها حرية مشروطة بالطاعة وهو إلزام لا يختلف في شيء عن شكل الحرية التي كان النظام السوري - وما يزال - يمنحها لمواطنيه في قول "نعم" في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية وفي فعل كل ما يثبت انتماءهم إلى "خندق الصمود والتصدي" ويؤكد ولاءهم لحزب البعث وعبادتهم للقائد.
- العقد الاجتماعي يلصق صفة "الديمقراطي" بكل شيء وأي شيء و إذا فكرت بعمق في هذا النوع من الإلحاح والمبالغة ستجد أنه لا يدعو إلى التندر والسخرية بقدر ما يدعو إلى الريبة والقلق خاصةً إذا علمتَ أن كلمة (الديمقراطية) قد وردت في "العقد الاجتماعي" 215 مرة في حين يذكرها الدستور الفرنسي فقط خمس مرات (ومثله بالضبط الدستور السوري) والدستور السويسري يذكرها مرتين ولا أثر لهذه الكلمة على الإطلاق في الدستور الأمريكي.
- العقد الاجتماعي يتعامل مع المرأة ككائن موازي للإنسان حرفياً ولذلك تراه يخصص لها مؤسسات موازية للمؤسسات المجتمعية والقانونية الأخرى.
- العقد الاجتماعي الجديد مستمرٌ كسابقه في مهادنة القبيلة على حساب المدينة والكهنوت على حساب القانون وتفضيل الموالي على المعارض ولو بصورة غير مباشرة.
- تقول المادة /37/ : "الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا تلتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجميع لوائح حقوق الإنسان ذات الصلة" وهذا الالتزام كان كافياً برأيي لحذف عشرات البنود والمواد التي تلته وخاصة في باب الحريات.
- المادة /10/ تتضمن القسم: (أقسم بالله العظيم وأعاهد الشهداء أن ألتزم بالعقد الاجتماعي ومواده وأن أحافظ على الحقوق الديمقراطية وقيم الشهداء, وأصون حرية وسلامة وأمن مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا وجمهورية سوريا الديمقراطية, وأن أعمل من أجل حياة ندية حرة وتحقيق العدالة الاجتماعية وفق مبدأ الأمة الديمقراطية) والقسم كما هو واضح يفترض مسبقاً -أو إنه يفرض بالفعل- على جميع المواطنين الإيمان بالله أولاً وهو شأن قلبي وبأيديولوجية الأمة الديمقراطية ثانياً وهو شأن حزبي. ومن يقارن هذه اليمين باليمين الدستورية في دساتير جميع دول المنطقة العربية بدون استثناء سيلحظ هذا التشابه الفاقع في هذه الخلطة الديماغوجية/التوتاليتارية.
- تقول المادة /16/ وهي الوحيدة التي ورد فيها مصطلح (الشعب الكردي): "تضمن الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال - شرق سوريا حقوق الشعب الكردي السياسية والاقتصادية والثقافية وتحافظ على الخصائص التاريخية والبنى الديمغرافية الأصيلة للمناطق الكردية". وأعتقد أن كاتب المادة 16 استخدم الفعل غير المناسب "تضمن" بدل "تؤيد أو تساند أو تقرّ" لأن الحقوق السياسية للشعب الكردي مصطلح فضفاض يتضمن في حده الأقصى بالضرورة ما لا تطالب به الإدارة ولا يمكنها أن "تضمن"ـه ولو طالبت به وهو حق هذا الشعب في دولته المستقلة "كردستان" التي لم يرد ذكرها على الإطلاق في العقد الاجتماعي مقابل ذكر كلمة "سوريا" 128 مرة.
- أما المادة /68/ التي تقول نصاً "لكل إنسان الحق في اللجوء الإنساني والسياسي, نبذ المعاملة السيئة له, لا يعاد اللاجئ السياسي لبلده دون رضاه. ينظم ذلك بقانون" فليست في الحقيقة أكثر من ترف تشريعي ومبالغة إنشائية في ظل الأرقام المهولة من المهاجرين السوريين طالبي اللجوء السياسي والإنساني في دول الغرب.
وأخيراً ثمة عدد من المصطلحات الغامضة وردت في متن العقد مثل:
- "الرياضة الصناعوية": وهو نحت فلسفي يتضمن "حكم قيمة", لا يعني الرياضة ولا يعني الصناعة ويتطلب شرحاً ليس محله العقد الاجتماعي بالتأكيد.
- "اقتصاد المرأة": وهذا كذلك من التعابير التي تحتاج شرحاً كونه نوع جديد من الاقتصاد وربما تم نحته في مواجهة "اقتصاد الرجل" غير الموجود أيضاً.
- "العائلة الديمقراطية": تعبير غريب ربما يشير إلى نوع جديد من العائلات يشبه دولة صغيرة يتم تداول سلطتها بالانتخابات بين أفراد العائلة الواحدة.
- "جمهورية سوريا الديمقراطية" وهو كيان غير موجود على أرض الواقع ومع ذلك يؤكد العقد الاجتماعي في مادته الخامسة على أن "الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا جزء من جمهورية سوريا الديمقراطية" ما يذكرنا بالدستور البعثي الذي يجعل سوريا جزءً من كيان أكبر غير موجود على أرض الواقع هو "الوطن العربي".
وخلاصة القول, إن الشعوب تضع دساتيرها بناءً على ما تراكم لديها من تجارب وخبرات ومعارف تتعلق بالسبل والوسائل المثلى لتنظيم التعايش بين مكونات الكيان من جهة ولقوننة التعامل مع الكيانات الأخرى من جهة ثانية. أما تلك الدساتير التي تضعها سلطات ثورية غير منتخبة بهدف "إعادة تشكيل المجتمعات على قياس أيديولوجياتها" ثم تحشوها بنصوص غامضة وعبارات عاطفية ومصطلحات غير واقعية فلا أعتقد أنها قابلة للبقاء والأمثلة على ذلك كثيرة