الجنرال المبتسم في قبره
إبراهيم خليل
يتحكم النظام السوري الحالي وأجهزته الأمنية ومؤسساته الرديفة بكل شيء في البلاد منذ أكثر من نصف قرن وهي مدة طويلة نسبياً تساوي تقريباً متوسط العمر البشري الحالي. أي إن هناك آلافاً من السوريين ولدوا وعاشوا وماتوا دون أن يعرفوا حكومة سوى حكومة حزب البعث، ولا رئيساً سوى حافظ (ثم بشار) الأسد.
في حالة انقلاب سنة 1970, يمكن النظر إلى استيلاء موناركية/ ملكية الأسد على وسائل الإعلام على أنه سبب لما وقع بعد ذلك وليس نتيجة له، أي عكس ما كانت عليه الحال في الانقلابات السابقة, أعني أن الاستيلاء على مقر وزارة الإعلام ومبنى الإذاعة والتلفزيون لم يأتِ كنتيجة طبيعية للانقلاب العسكري بقدر ما كان الاستيلاء على الإعلام هو ركيزة الانقلاب والوسيلة الاستراتيجية الرئيسية التي لولاها لما نجح الأسد الأب في تثبيت أركان حكمه وتأليه شخصه عبر غسيل الأدمغة الممنهج والضغط غير المسبوق على ذاكرة السوريين وسحق شخصياتهم.
منذ نصف قرن لم يسمع ولم ير السوريون بثاً مباشراً واحداً خارج سيطرة المخابرات, لم ينطق أحد برأي سياسي أو غير سياسي يختلف عما يرد في "نشرة أخبار الثامنة والنصف" وما يُنشر في الصحف الرسمية الثلاث. لم تظهر أغنية ولا فيلم ولا مسلسل ولا مسرحية ولا رسم كاريكاتوري ولا حتى إعلان تجاري أو نكتة شعبية قبل المرور على مقص الرقابة وتقليم المنتج حسب مقاييس التوجيهات العليَّة.
في سنة 1994 عرض التلفزيون السوري الحكومي مسلسلاً من خمسة أجزاء هو "حمام القيشاني" من تأليف "دياب عيد" وإخراج "هاني الروماني". عالج المسلسل الأحداث السياسية التي شهدتها سوريا في الفترة بين مطلع الاستقلال عن الانتداب الفرنسي حتى تاريخ الانقلاب البعثي سنة 1963.
كان المسلسل مكتوباً بحِرَفية عالية وإخراج متقن مع تشابك مقنع ومشوق في الأحداث وأداءٍ متميزٍ لنخبة من الممثلين السوريين الكبار حينها والذين لعبوا ببراعة أدواراً مثلت معظم شرائح المجتمع السوري ومن مختلف الطبقات والتوجهات السياسية بما فيها شخصيات الرؤساء والوزراء والضباط أمثال الشيشكلي, الزعيم, العظم, السرّاج, فنصة, شقير ...
مع انتهاء الحلقة الأخيرة من الجزء الخامس انتظر الجمهور السوري, المتعطش إلى أي شيء "غير أسدي",
جزءً سادساً يستكمل أحداث المسلسل من حيث توقف عند استيلاء حزب البعث على السلطة وربما شطت بهم الآمال وتوقعوا جزءً سابعاً يتعرض لمرحلة "الحركة التصحيحية" التي ما زالوا يعيشونها في حاضرهم.
ولكن مرت السنوات وجرت مياه كثيرة في النهر ومات الأسد الأب سنة 2000 دون أن يظهر الجزء السادس وقامت الثورة السورية سنة 2011 وصمد لها الأسد الابن رغم الانفلات الأمني والانشقاقات العسكرية والمجازر التي تم ارتكابها ضد المدنيين وموجات النزوح والهجرة الهائلة وتلوث سمعة النظام السوري داخلياً وخارجياً بشكل لم يسبق له مثيل, ولم يظهر الجزء السادس وبقي الإعلام السوري على حاله محكوماً بالقبضة الحديدية ذاتها.
وأخيراً في رمضان سنة 2023 أي بعد مرور 12 سنة على قيام الثورة السورية, أنتجت شركة "ميتافورا" مسلسلاً مصوَّراً في تركيا تحت اسم جذاب هو "ابتسم أيها الجنرال" بمجموعة صغيرة من "الفنانين المنشقين" عن نقابة فناني الأسد: مكسيم خليل, عبد الحكيم قطيفان, مازن ناطور, ريم علي, عزة البحرة, وعدد من الوجوه الشابة المغمورة والكومبارس, سيناريو "سامر رضوان" وإخراج "عروة محمد".
سبقت "ابتسم أيها الجنرال" حملةٌ إعلانية ركَّزت, أو بتعبير أدق لمَّحت, أن "مكسيم خليل سيلعب دور "حافظ الأسد" وتوقَّع الجميع مسلسلاً شبيهاً ومكمِّلاً لـ "حمام القيشاني" الذي توقفت أحداثه قبل الوصول إلى حقبة الجنرال الأسد وانتظر الجميع أن يكون هو شخصياً "الجنرال المبتسم" المقصود في هذا المسلسل.
ومع عرض الحلقة الأولى جاء الأمر مخيباً للآمال إذ بدا من الواضح أن "سامر رضوان" مؤلف العمل, ومؤلف "لعنة الطين" و"الولادة من الخاصرة" من قبل, عاجزٌ نهائياً عن تجاوز الرقيب الداخلي الذي عاش معه طوال حياته وفي جميع المسلسلات السابقة التي كتبها قبل 2011 رغم أنها لامست حينها ولو بحذر سقف هامش الحريات المتاح.
"ابتسم أيها الجنرال" قصة متخيلة يصرح مؤلفها ويصرُّ مع بداية كل حلقة أنها متخيَّلة لا تمتُّ إلى الواقع بصلة وكأنه يقدم اعتذاراً غير مباشر أو صك براءة مسبق إلى النظام. الدولة اسمها "دولة الفرات" والرئيس يدعى "فرات" وأخو الرئيس اسمه "عاصي" والمخابراتي النافذ سُمّيَ "حيدر" في إشارات ساذجة وسطحية إلى سوريا وحافظ الأسد ورفعت الأسد وعلي حيدر.
وإلى جانب "القصة المتخيَّلة" تشاهد سيناريو غير متقن مبني على ثيمة "صراع الأخوين على السلطة" وتستمع إلى حوارات ركيكة ضعيفة لا ترقى إلى مستوى وعي المشاهد السوري لا قبل الثورة ولا بعدها, بل يمكن القول بدون مبالغة إن مسلسلاً بهذا الشكل الذي تم تقديمه كان يمكن لتلفزيون النظام نفسه أن يعرضه على شاشته دون أن يخرج عن تقاليده أو يفتح ولو ثغرة صغيرة في جدار إعلامه الناري.
بذل مكسيم خليل, وهو بطل المسلسل, ما بوسعه ومع ذلك جاء أداؤه مصطنعاً غير مقنع ولا يقارن بأدائه الواقعي المتميز في مسلسلٍ مثل "لعنة الطين" وكذلك كان أداء رفاقه من الممثلين والممثلات المعروفين الذين اجتهدوا ولكن ليقدموا في النهاية كاراكترات مستهلَكة بشكل فظيع ومُمِل يستثير الشفقة أكثر مما يستحق الإعجاب. أما الكومبارس فلا يستحقون حتى التطرق إلى أدائهم.
مقارنةً مع ما حدث في مصر في السنوات الأخيرة من ظروف سياسية متشابهة إلى حد كبير يتبين لنا عمق الهوّة التي تفصل بين نظامين وشعبين ونخبتين وثقافتين فقد واكب الفنانون المصريون بحِرفيَّة عالية الأحداث التي عصفت ببلادهم إثر إسقاط نظام الرئيس مبارك ثم صعود تنظيم "الإخوان المسلمون" إلى الحكم ثم سقوطهم وعودة الحكم العسكري, إذ قام التلفزيون المصري عشية استقرار الأحوال مباشرة بإنتاج مسلسل "الاختيار" بالأسماء والشخصيات والزمان والمكان والأحداث الحقيقية كخلفية كبيرة لحراك شعبي واجتماعي مهيب استخدم مقاطع حقيقية من مظاهرات الثوار كما عرض مقاطع فيديو حقيقية مأخوذة من الأرشيف لاجتماعات القيادة المصرية السابقة. أما السيناريو والحوار والإخراج وأداء الممثلين فكان وفياً لتقاليد السينما المصرية الرائدة.
أعتقد أن السبب في الفارق بين سويّة الإعلامين وسلوكهما هو ذاته سبب الفارق بين نتيجة "الربيع العربي" في كلا البلدين, ويمكن إجمال ذلك في:
- تعقيد الوضع السوري عرقياً ودينياً وطائفياً مقارنة بالوضع المصري المتجانس عرقياً وطائفياُ على الأقل.
- إحكام النظام السوري قبضته الأمنية على كل شيء بما فيه الإعلام مقابل هامش واسع من الحرية السياسية والإعلامية في مصر
- استقلالية القضاء المصري مقابل عدم وجود قضاء سوري حقيقي
- وجود معاهدة سلام مصرية-إسرائيلية منعت النظام المصري من قمع ثورة الشعب والرقابة الصارمة على الإبداع والانتاج الفني بذريعة التهديدات الخارجية.
- ثقافة النخبة المصرية العريقة الثقافية والفنية التي يشكل تاريخها وحضورها ونشاطها درعاً واقياً للشخصية المصرية.
لا شك أن هناك أسباباً إضافية ولكن بكل الأحوال فإن ثقافة العبودية التي فُرضَت زمناً طويلاً على السوريين وشملت الموالين والمعارضين على حد سواء هي السبب الرئيسي في الانحطاط الذي نشهده على جميع المستويات ولا أشك أن هذه الثقافة ستظل فاعلة حتى بعد سقوط النظام الحالي بسنوات وسيكون على السوريين أن ينتظروا وقتاً طويلاً قبل أن يشاهدوا على شاشتهم الوطنية مسلسلاً يروي أحداث تاريخهم المعاصر بصدقٍ وموضوعية.
"ابتسم أيها الجنرال" هزيمة فنية للمعارضة تضاف إلى الهزيمتين السياسية والعسكرية, والنتيجة المؤسفة حتى لحظة كتابة هذا المقال هي ثلاثة/صفر لصالح النظام.