الطاعة

الطاعة
العمل الفني للفنان الأيطالي riccardo arena

روبرت.ل.هيلفي

"ولِد الإنسان حرّاً، لكنه يرزح في الأغلال في كلّ مكان"
جان جاك روسّو، العقد الاجتماعي، الجزء الأول، الفصل الأول.


في محاولةٍ للردّ على ملاحظات مثل ملاحظة روسّو التي أوردناها أعلاه، طرح الدكتور جين شارب الأسئلة التالية:

"كيف يتمكّن حاكم من تحقيق السيطرة السياسية على جموع رعاياه والمحافظة عليها؟ لماذا يخضعون له ويطيعونه بأعدادهم الكبيرة هذه، حتى حين يكون واضحاً أنّ ذلك ليس في مصلحتهم" .
لقد شكّلت هذه الأسئلة التي طرحها الدكتور جين شارب والتي أوردناها أعلاه أساس تحليله الثاقب للأسباب التي تقف وراء ما يبديه الشعب من الطاعة. وهذا الفصل هو، إلى حدٍّ بعيد، بمثابة عرض لهذا التحليل. ويشكّل نموذج السلطة التعدّدي (الذي عرضناه في الفصل الأول)، وصياغة مصادر السلطة في أعمدة للدعم (ما أوردناه في الفصل الثاني)، والطاعة ذلك الثلاثي الضروري لفهم نظرية الصراع اللاعنفي الاستراتيجي وتطبيقاتها. ولذلك فإنه من الأساسي أن نفهم جيداً ما يدفع الناس للطاعة، إلى حدٍّ يبلغ في بعض الأحيان التضحية بحياتهم من أجل قضايا يعارضونها بقوة. فالطاعة هي "في القلب من السلطة السياسية". فلا يمكن لحاكم أن يحكم إن لم يطعْه الشعب. وهذا هو التبصّر الذي ترتكز إليه استراتيجيات الصراع اللاعنفي. فحين تتمثّل غايتنا في دفع الجمهور لأن يسحب موافقته على أن تحكمه الأنظمة الديكتاتورية أو سواها من الأنظمة السلطوية، علينا أن نفهم أولاً ما الذي يدفع الشعب في المقام الأول إلى إبداء مثل هذه الطاعة.

العادة

إن السبب الذي يدفع الناس لأن يطيعوا هو تعوّدهم على الطاعة. فقد اعتدنا على إطاعة مَنْ هم في السلطة. ومنذ الطفولة ونحن خاضعون للسلطة. وبالنسبة لمعظمنا فإن السلطة تبدأ مع الوالدين، والأخوة الأكبر، والأجداد، وسواهم من الأقرباء ثم تنتقل إلى أساتذة المدرسة، ورجال الشرطة، بل وإلى رموز السلطة. وعلى سبيل المثال، فإننا نطيع إشارات المرور بسبب من العادة، حتى عند تقاطعات شارعية مهجورة ليس فيها أحد.
وفي الجيش تتمثّل الغاية الأساسية لتدريب المجنّدين في خلق عادات جديدة من الطاعة. فسرعان ما يتعلم المجنّد أن يمتثل مباشرة ودون تساؤل لأوامر رؤسائه الأعلى ومدرّبيه. والحال أنّ ساعات التدريب المتكرّر بأوامرها القريبة والمراقبة الدائمة المشتملة على التهديد ليس لها تلك العلاقة الكبيرة بمهارات خوض الحرب الحديثة، لكنّ لها كلّ العلاقة بتنمية عادة الخضوع للأوامر وإطاعتها. وعلاوة على ذلك، فإنّ المهارات العسكرية الأساسية، مثل استخدام الأسلحة، تكون منطوية في عمق التدريب المتكرّر، بحيث يغدو استخدامها أشبه بالعادة، ولا تتطلّب أي تفكير متعمّد.
وأولئك الذي اعتادوا التدخين يعرفون ما تعنيه العادة. فنحن لا تعلم كم سيجارة دخّنا، ولا نتذكّر أين دخّناها، ولا نتوقف عن التدخين حين ترتفع أسعار التبغ إلى مستويات مخيفة.ولكي نقلع عن هذه العادة أو سواها من العادات، بما فيها عادة الخضوع إلى السلطة، فإنّ علينا أن نتّخذ قراراً مدروساً بأن نقلع، وأن لا نتوقّف عن تذكير أنفسنا بهذا القرار، وأن نكرّر لأنفسنا الأسباب التي تجعل الإقلاع عن هذه العادة أمراً مهماً.
الخوف من العقاب
يشكّل الخوف من العقاب الذي يمكن أن يترتّب على عدم الطاعة سبباً آخر لما يبديه البشر من طاعة وخضوع، فحين نخرق قانوناً، يمكن لسلطة الدولة أن تقف في وجهنا. وقد نُغَرَّم كثيراًَ من الأموال. وقد تستولي الدولة على أملاكنا. وقد تلقي بنا في السجن. بل إنها قد تعدمنا لعدم إطاعة القوانين. وغرض العقوبات يتمثّل في معاقبة المنتهك و/أو ردع الآخرين عن عدم إطاعة القانون ذاته أو ما يشبهه من القوانين. ويعتمد الطاغية على الخوف من العقاب في ضمان الطاعة أكثر من الحكام الذي ينالون الدعم الطوعي من الجمهور.

المصلحة الخاصة

ثمة كثير من الناس الذي يمكن أن يعبّروا عن كراهيّتهم الشديدة لحكومتهم، لكنّهم يقدمون لها ذلك الدعم الفعال على الرغم من ذلك. وما يفسّر هذه المفارقة هو تفحّص الدور الذي تلعبه المصلحة الخاصة والمردود الشخصي المتاح لأولئك الذين يدعمون الحكومة. وعلى سبيل المثال، ما هي المكافآت الشخصية التي تُمنح لأفراد القوات المسلحة لإطاعتهم تلك السياسات غير الشعبية بل القاسية؟ الترقيات، النياشين، الهيبة، المزايا الخاصة، الراتب التقاعدي، كلّ ذلك يمكن أن يكون من بين العوامل الفاعلة والمؤثرة. وفي الاقتصادات التي تسيطر عليها الدولة حيث يعمل معظم الشعب لدى الحكومة، يكون من مصلحة الشخص الخاصة ألا يفقد عمله، لأنه قد لايكون هناك أيّ عمل بديل. وثمة آخرون ممّن يمكن أن ينالوا مكافآت مالية كبيرة على دعمهم للنظام. ولا ينبغي أن ندين كلّ من يدعم حكومة غير شعبية انطلاقاً من المصلحة الخاصة. فلدى كلّ شخص أسبابه الخاصة التي تدفعه إلى فعل ذلك. ويعتقد كثيرمن هؤلاء أنّ ما من بديل آخر. والتحدّي الذي يواجهنا هو أن نظهر لهم أنّه يمكن أن يكون من مصلحتهم الخاصة أن يرفضوا الطاعة.
الواجب الأخلاقي
إنّ الإحساس بوجود واجبٍ أخلاقي يدفع إلى الطاعة هو إحساس شائع في كلّ مجتمع،. ويُستمَدّ واجب الطاعة هذا من:
الصالح العام للمجتمع: حيث يمكن القول إنّ القوانين تحمي جميع المواطنين. وإنّ بعض القوانين تحمينا من سلوك الآخرين المعادي للمجتمع (السلب والقتل والاغتصاب). وإنّ قوانين أخرى تضمن خير المجتمع العام (مثل تحديد الحصص من السلع والخدمات، وتجنيد الشباب في الجيش، والضرائب). وقد نشعر في بعض الأحيان أن الصالح العام يمكن أن يُخْدَم على أفضل وجه من خلال إطاعة حاكم مكروه لأننا لا نعتقد بأنّ البديل يمكن أن يجعل الحياة أفضل. لقد كان جوزيف ستالين طاغية من غير شكّ. غير أن ملايين البشر كانوا يطيعونه انطلاقاً من اعتبارهم أنّ هذه الطاعة هي في صالح المجتمع العام. وحتى بعد أن تكشّف أنّ ستالين هو المسؤول عن قتل ما يزيد على عشرين مليوناً من البشر، فإنّ بعض الروس لا يزالون يحنّون إلى "تلك الأيام السعيدة". وبالطبع، فإنّ من الممكن أن ينعكس عن واجب الطاعة الأخلاقي هذا ضغط بالاتجاه المعاكس. وهذا ما ينبغي أن يبقى في الأذهان، فالضغط يمكن أن يعمل في الاتجاهين ويمكن أن يكون أداة نافعة في تغيير نماذج السلوك.

العوامل فوق البشرية

تُرسَم للحكام في بعض الأحيان صورة سوبرمانية أو تُسبَغ عليهم صفات أشبه بصفات الإله. وحين يتصوّر البشر أنّ الحاكم كليّ القوة أو أنه تجسيد للدين، يكاد أن يكون من غير المحتمل أن يفكّر المرء في عدم إطاعة ذلك الحاكم. فمن كان يجرؤ على عدم إطاعة أدولف هتلر وهو في ذروة حكمه؟ وتأليه الزعماء هذا له تاريخ طويل. فعلى مدى قرون، تقبّل البشر مفهوم "الملوك الآلهة" و"حقّ الملوك الإلهي". وكان من التنويعات على هذا الحكم الإلهي في القرن العشرين ذلك الالتحام بين الدولة والدين في إيران. ولكي نواجه هذا العامل من عوامل الطاعة، لا نحتاج سوى إلى قول الحقيقة: ليس الإنسان كليّ القدرة وليس الحاكم وكيلاً للربّ.
التماهي النفسيّ مع الحكام
ينظر بعض البشر إلى حكامهم على أنهم امتداد لعائلتهم. وبالطريقة ذاتها التي يختبر فيها أنصار فريق رياضي متعتهم حين يكسب هذا الفريق أو حزنهم حين يخسر فإنّ الحاكم يغدو امتداداً للفرد. ويصحّ هذا بوجه خاص حين يخوض الشعب والحاكم معاً تجربة عسيرة مثل الكفاح من أجل الاستقلال. (ومن المقاتلين المشهورين من أجل الاستقلال كلّ من هوشي منه، والجنرال ني وِن، وروبرت موغابي). وحين يكون هذا الامتداد العائلي عاملاً من عوامل الطاعة التي يبديها الشخص، لا بدّ من محاولة إقناعه بأنّ مثل هذا التماهي مع الحاكم لم يعد مبرَّراً.

منطقة اللامبالاة

قد يعترف بعض البشر بأنهم لا يبالون إزاء معظم القوانين، إن لم يكن كلها، التي يمكن أن يتوقّعوا ولو من بعيد أن تقع على حياتهم اليومية. ويبدي هؤلاء الطاعة لمجرّد أنّ عكس ذلك يبدو أكثر إزعاجاً. ويرى معظم هؤلاء أنّ مثل هذا السلوك هو سلوك معقول فيما يخصّ معظم القوانين. غير أنّ المشاكل تنشأ حين تعمل القوانين على تقييد الحقوق والحريات الأساسية وتبذر الاضطراب في منطقة اللامبالاة. ومهمة المعارضة الديمقراطية أن تنبّه الجمهور أن اللامبالاة لم تعد ملائمة لأنها تسهم في استعباد المجتمع وأنّ الحريات الفردية تتآكل من جرّاء تلك القيود الحاذقة المفروضة على الجمهور.
غياب الثقة بالنفس
يفتقر بعض الناس إلى الثقة بأنفسهم وبأحكامهم وحتى بقدرتهم على المقاومة أو رفض الطاعة وذلك لأسباب كثيرة. وحين تمرّ عقود على العيش في ظلّ نظام سلطوي، قد لا نجد لدى المجتمع سوى خبرة زهيدة في اتّخاذ القرارات، وسوى فرص ضئيلة في إبراز القيادات وتنميتها. ولعلّ بعض الناس يعتقدون أنّ حكامهم أكثر أهلية منهم فيما يتعلّق باتخاذ القرارات. وقد يشعر هؤلاء، إزاء حركة المقاومة، أنهم لا يمكن أن ينجحوا في هزيمة الحكومة أو يشاركوا في تحرير أنفسهم. وتُعدّ استعادة ثقة الجمهور بقدرته على إصدار الأحكام على أفعال الحكام ثمّ العمل على تلك الأحكام من الأمور الحاسمة في نجاح الكفاح اللاعنفي. وفي بعض الأحيان، يكون ما نعتقد أنه ضرب من "اللامبالاة" مجرّد غياب للثقة بالنفس.

خلاصة
لقد تفحّصنا للتوّ عدداً من الأسباب التي تدفع البشر لإطاعة حكامهم. وهي أسباب تفنّد القول الذي يرى أنّ الطاعة أمرٌ "طبيعي". فالبشر لا يرثون الاستعداد للخضوع. والطاعة هي في المقام الأول ذلك المركّب الذي تتضافر فيه العادات والمخاوف والمصالح. والعادات والمصالح يمكن أن تتغيّر، والخوف يمكن أن يتبدّد ويزول.