تعزيز الديمقراطية متعددة الإثنيات

تعزيز الديمقراطية متعددة الإثنيات

أندرو رينولدز
2/1
غالباً ما تنتهي إقامة الديمقراطية في دولة هشّة ومنقسمة إلى أن يطيح بها الصراع الداخلي أو تهزمها العواصف الدولية والإقليمية. والصراعات التي لا تني تتدهور في العراق وأفغانستان هي صراعات دفعتها إلى حدٍّ بعيد أخطاء التخطيط المؤسساتي في المرحلة التي تلت مباشرة مرحلة الصراع. فإقامة دستور موضوع ببراعة ومُفَصَّل بحسب خصوصيات دولةٍ أمةٍ منقسمة لا يحلّ الصراع الإثني. غير أنه لم يكن هنالك قطّ أيّ استقرار سلميّ دائم لم تلعب فيه الحكومة متعددة الإثنيات والمخطط لها جيداً دوراً مركزياً، فتخطيط الديمقراطية هو شرط مسبق ولازم، وإن لم يكن كافياً، للاستقرار في مجتمع منقسم.والديمقراطية هي شبكة متصلة فيما بينها من المؤسسات السياسية يختارها الناخبون الذين يخضعون لقوانينها وأنظمتها. لكن تلك الشبكة ينبغي أن تكون مقيدة بخيوط ثقافية وتاريخية واجتماعية مميزة تشدّ الدولة معاً. ويحتاج دستور ما بعد الصراع أن يعكس طرائق صنع القرار التقليدية، ومراكز القوى السائدة في القرى والمدن، ومدى الانقسامات الإثنية، سواء من حيث شدّتها أو جذور أسبابها.والدستور ينصّ على القواعد الأساسية التي تحكم اللعبة الديمقراطية. ولذلك سوف أستخدم مصطلح "التخطيط الدستوري" ومصطلح " التخطيط الديمقراطي" كمترادفين، مع أنّ الدستور لا بدّ أن يتناول قضايا أبعد مدىً من مؤسسات الحكم. والدستور الجيد هو عماد الانسجام بين الإثنيات، لكنه عماد واحد. وحتى حين ينجح من يخططون للدستور، فإنّ الدولة يمكن أن ترتدّ إلى العنف والفوضى من جديد بسبب صراع إقليمي أو جيران يتدخلون في شؤونها الداخلية.غير أنه حين يتعلق الأمر بإقامة الاستقرار وتدبّر الصراع الإثني، تبقى البنى السياسية المبنية جيداً أفضل سبيلٍ للتعامل مع الصراعات بين الجماعات داخل الدولة الأمة. والدستور المعقول والمتطور يُسَكِّن مخاوف الأقلية وشعورها بالاغتراب. وفي المجتمع المنقسم ثمة عنصران لبناء الاستقرار الإثني. أولهما، هو وجوب أن تشعر كلّ جماعة إثنية بأنها مُدْناة ومُعْتَرَف بها في تسيير أمور الدولة. والثاني، هو وجوب حماية الجماعات والأفراد الأضعف. ومن الممكن تماماً للدولة أن تُدْني جماعة أقلوية من الحكومة في الوقت الذي تمتنع فيه عن حماية حقوق تلك الجماعة. كما يمكن للدولة، بالمقابل، أن تحمي الأقلية دون أن تعترف بما لها من صوت لدى اتخاذ القرارات المتعلقة بالحكم. فالدولة يمكنها أن تراعي حالةً من هاتين الحالتين دون الأخرى، غير أنّ التوافق الإثني يقتضي الحالتين. والحماية مسألة قانونية في جوهرها، لكنّ الإدناء هو سمة حاسمة من سمات السياسة الجيدة والقابلة للتنفيذ. ولذلك سوف أركّز هنا على العناصر الدستورية التي يمكن أن تظهر هذا الإدناء وتبرزه.
التخطيط الديمقراطي في أفغانستان والعراق:
يمكن للمرء، إزاء عدم الاستقرار البادي في كلٍّ من أفغانستان والعراق، أن يطرح السؤال التالي: ما مدى أهمية التخطيط الدستوري المحلي بالنسبة لمستقبل أفغانستان والعراق؟ ولا شكّ أنّ بمقدورنا القول إنّ هزيمة ضروب التمرد، والتخلص من الفساد، وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية في كلٍّ من هذين البلدين هي مشكلات أكثر إلحاحاً من الانتخابات الناقصة والإجراءات التشريعية. غير أنّ ظهور بُنى سياسية ديمقراطية فاعلة كان أمراً مركزياً في بقاء الدولتين منذ الاحتلالين اللذين قادتهما الولايات المتحدة الأميركية، ومن دون الانتباه إلى التخطيط المؤسساتي، فإنّ انزلاق البلدين قد يكون حتمياً باتجاه مزيد من الانقسام والعنف. ففراغ السلطة السياسية الشرعية، إذا ما سُمِح به، لا بدَّ أن يهيّئ المنصّة أمام التمرد وغياب الاستقرار.ويبقى الوضع في أفغانستان ذلك الوضع الفسيفسائي بالغ التعقيد المشتمل على عداوات إثنية قديمة، وضروب من التلاعب بالسلطة، وصراعات دينية، وقومية، ومتعلقة بالثروة. ومثل هذه التوترات تتخلّل خطاب الدولة السياسي وتكون لها الصدارة على نحوٍ خاص في الجدالات حول الكيفية التي ينبغي أن تُقام عليها الديمقراطية في أفغانستان، ومن الذي سيتسلّم السلطة، وكيف سيُنْتَقَى القادة، وكيف ستُضْبَط سلطتهم التي سبق أن حازوها.وفي العراق وسَم الفراغ السياسي والأمني أول سنتين من الاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. ولعلّ إقامة حكومة شرعية بصورة سريعة كان سيقيّد العنف الطائفي، المناوئ للحكومة الذي خرج الآن عن السيطرة. واليوم اكتسبت الحكومة العراقية متعددة الإثنيات بعض الشرعية، لكن قيامها لم يكن سريعاً أو شاملاً بما يكفي للحيلولة دون الانزلاق إلى الفوضى، كما أنّ قادتها لا يزالون يقومون بألاعيب برلمانية عامة وخاصة.وعلاوةً على الدستورين الجديدين، فإنّ العمليات التي اختيرت وفقها المؤسسات الجديدة يمكن ان تكون فاعلةً بالمثل في الحدّ من الاستقطاب الإثني أو مفاقمته. ففي أفغانستان، تُحَدَّد الترتيبات السياسية المؤقتة والدائمة على حدّ سواء من قبل نخب رديئة تقف في الكواليس. واللويا جورغا، أي الاجتماع الأفغاني التقليدي الذي اختار حميد كرازي كرئيس مؤقت عام 2002، كان فوضوياً وبعيداً عن التركيز، وكانت السلطة فيه في أيدي الأقوياء الذين وقفوا في معسكر كرازي. وكان البشتون في جنوب البلاد وشرقها قد شعروا بأنهم تُرِكوا خارج العملية التي رأوا أنّ الطاجيك، والأوزبك، وتحالف الشمال هم الذين يقفون وراءها بصورة أساسية. أمّا لويا جورغا العام 2004 فكان يشتمل على مزيدٍ من الأعضاء ومزيدٍ من التمثيل، لكن النواب لم يتلقوا نسخةً من مسوّدة الدستور إلا حين وصلوا إلى كابول وحيل بينهم وبين إجراء أيّ تعديلات مهمة على تلك المسوّدة.أما التخطيط الديمقراطي في العراق وسيرورته بعد حرب العام 2003 فقد اتّسم بسلسلة من الخطوات الخاطئة، وسوء القراءة، وأخطاء التقدير والحكم من طرف السلطة المؤقتة لقوات التحالف المحتلة. وقد أثبت الأعضاء الأوائل لمجلس الحكم العراقي الذي اختارته السلطة المؤقتة أنهم غير فاعلين ولا يمثّلون الرأي العام العراقي. ووقف المستشارون الأميركيون ضد دعوات آية الله السيستاني الباكرة إلى انتخابات وطنية وبددوا أشهراً خصبةً وهم يحاولون تلفيق برلمان تختاره لجان نخبوية في المدن الكبرى. وقد توسّع فراغ القيادة الشرعية خلال السنوات الثلاث التالية، في حين تنامى العنف السياسي. وعلى الرغم من السيطرة التقنية على الحكم التي مارسها رئيس الوزراء إياد علاوي في حزيران 2004 وانتخابات المجلس الانتقالي في كانون الثاني 2005 والمجلس الدائم في كانون الأول 2005، إلا أنّ الوضع واصل التدهور. ومع أنّه من الصحيح من الناحية التقنية أنّ مجلساً منتخباً هو الذي وضع مسوّدة الدستور العراقي وأنّ هذه الوثيقة قد أقرّها استفتاء وطني عام، إلا أنّ السنّة قد حيل بقوة بينهم وبين أيّ من هاتين العمليتين. وعلى سبيل المثال، فإن المجلس الانتقالي الذي انتُخِب عام 2005 كان خالياً بالفعل من ممثّليّ السنّة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ غموض الدستور فيما يتعلّق بتفاصيل توزيع السلطة يترك إمكانية مقلقة لأن تختطف الأكثرية الشيعية السلطة في المستقبل.وحتى لو كان معظم المحللين متفقين على أنّ غرس الديمقراطية في العراق وأفغانستان كان ناقصاً ومعيباً، إلا أنه يبقى هنالك متّسع كافٍ في كلتا الحالتين للتطور الديمقراطي والإصلاح المؤسساتي. وحين نبقي هذا في الأذهان، يغدو من الضروري أن نحدد الأدوات المتاحة في صندوق معدّات من يخططون للدستور أويتولّون أمر التخطيط الدستوري. وثمة تشكيلة من السُّبُل يمكن من خلالها إجهاض السلطة واقتناصها في دولة منقسمة، لكن هنالك ثلاث مناطق تطغى على آفاق التوافق بين الإثنيات: أولها، تقاسم السلطة مقابل استئثار الرابح بكلّ شيء؛ وثانيها، مركزية السلطة مقابل لامركزيّتها؛ وثالثها، الخطة الانتخابية.
تقاسم السلطة
في حين تبنّى عدد من الدول الخارجة من حالة صراع، مثل ليبريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، أنظمة حكم الأكثرية الرابحة التي تستأثر بكل شيء، فإنَّ حالات أخرى كثيرة اختارت أنظمة متنوعة من تقاسم السلطة بين الجماعات الإثنية. ففي بعض الحالات طالبت الأحزاب الكبرى في البرلمان بأن تشارك في الحكومة من خلال مقاعد وزارية، كما هو الحال في جنوب إفريقيا في العام 1994 وفي العام 1999. وفي لبنان، تُضمَن للجماعات الدينية مناصب تنفيذية، أما في أيرلندا الشمالية فقد مُنِحَت الأقليات حق النقض (فيتو) بشأن التشريعات التي تؤثّر عليها. ويمكن تقاسم السلطة التنفيذية بطرائق شتى، على أساس الدعم الانتخابي، أو النخب المناطقية، أو الاعتراف بالكتل الطائفية. وحتى حين لا تكون هنالك مطالبة بتقاسم السلطة من الأدنى، فإنَّ كثيراً من الحكومات الهشة قد سعت لكي تضم بصورة غير رسمية المتقاتلين السابقين في إدارات موحدة، كما هو الحال في سيراليون، وجنوب إفريقيا بعد العام 1999.وهنالك اختيار يمكن أن يُتَّخذ أيضاً بين الرئاسية والبرلمانية. فحين تتنازع جماعات إثنية متعددة على السلطة، قد يكون السيناريو الذي تكون فيه الرئاسة هي الجائزة الوحيدة التي تستحق الفوز بها سيناريو كارثياً فيما يتعلّق بجهود إحلال السلام. وللرئاسية في إفريقيا سجّل مشبوه إلى حدٍّ بعيد، حيث وصل عدد لا يحصى من الرجال الأقوياء إلى السلطة عن طريق الانتخاب لكنهم راحوا يميزون جماعتهم الإثنية ويهمشون سواها على نحوٍ منهجي. وفي بعض الأحيان، فإنَّ الرهانات المرتفعة التي وضعتها الرئاسية نصب أعينها لم تسمح ببقاء الديمقراطية بعد يوم الانتخابات مطلقاً. وأنغولا هي مثال بارز على هذا الصعيد: ففي العام 1991، أعاد جوناس سافمبي، مرشّح الأقلية، شنّ الحرب بعد خسارته الانتخابات مباشرة.وحكومة أفغانستان هي حكومة رئاسية وأكثروية رسمية. والمؤسسات العراقية هي برلمانية، توفّر حكومة متعددة الإثنيات كما توفّر ضروباً من الرقابة على حكم الأكثرية المنفلت. غير أنه في الممارسة كان على الرئيس كرزاي أن يضمّ الجماعات الإثنية الأساسية إلى إدارته، في حين استأثر الشيعة والأكراد في العراق بأدوار السيطرة على السنة.
وكانت الإدارة الانتقالية في كابول إدارة استيعابية وإدنائية على مستوى معين، غير أنها مالت أكثر باتجاه إدناء الأقوياء وليس الحائزين على الصفة التمثيلية. فأسياد الحرب هم الذين سُمِحَ لهم بدخول الخيمة، أما حركات المجتمع المدني الأفغانية التي تفتقر إلة الجيوش والبرامج الواضحة، فلم تُعْتَبَر أساسية ومهمّة بما يكفي لضمّها إلى الحكم. ومن الأمور الحاسمة أن تركيب الحكومة الأفغانية الحالية متعدّدة الإثنية ليست مشرّعة قانونياً ولا توجد إلا بوصفها نزوة عابرة من نزوات الرئيس الحالي وما من ضمانة أن حميد كرزاي أو أي رئيس مقبل، سوف يحافظ على هذا التوازن. وقد كان البشتون هم أداة الانتصار الرئاسي الذي حقّقه كرزاي في انتخابات العام 2004. والحقيقة أن انتصار الجولة الأولى هذا ما كان ليتحقّق لو لم يُتَح للأفغان الموجودين في باكستان، وهم من البشتون بصورة طاغية، أن يدلوا بأصواتهم. أما في عدد كبير من المراكز الأخرى التي تغلب فيها جماعات الأوزبك والطاجيك والخزر فقد هُزِمَ كرزاي أمام منافسيه الإثنيين. وفي العراق، من الصعب أن نتخيّل أيّ حكومة لا تضمّ رسمياً ممثلين عن الكتل الإثنية الثلاث. واليوم، فإن الرئيس، الذي يحتلّ موقعاً فخرياً إلى حدٍّ بعيد، هو كردي، ورئيس الوزراء شيعي، ونائبا رئيس الوزراء هما سنيّ وكرديّ. ووزير الدفاع هو سنيّ، وكذلك ثمانية من زملائه في الحكومة أو مجلس الوزراء. ويوجد في هذا المجلس اثنان وعشرون وزيراً شيعياً، وثمانية وزراء أكراد، ووزير مسيحي واحد، وليس في الدستور أغلبية طائفية رسمية ولا مطالبة بحكومة وحدة وطنية، لكنّ التمثيل البرلماني النسبي يجعل التحالفات حتمية في حين يمضي تقاسم المواقع التنفيذية أبعد من أيّ معيار غير رسمي. ومع ذلك، فإن التفاصيل المتعلقة بكيفية تقسيم السلطة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية كانت غائبة في الدستور العراقي لعام 2005. وحقيقة الأمر أنَّ قواعد اللعبة الديمقراطية تُرتَجَل يوماً بيوم.وفي كلا البلدين تحوز الجماعة الإثنية الأكبر على الموقع التنفيذي: أي البشتون في أفغانستان والشيعة في العراق. وعلى الرئيس كرزاي ورئيس الوزراء نوري المالكي أن يتعاملا مع مجلسين تشريعيين لا يسيطران عليهما. فتركيب الووليسي جيرغا الأفغانية يجعل تمرير برنامج الرئيس كرزاي الإصلاحي صعباً على نحوٍ استثنائي. وهناك ما يزيد على ثلاثين فئة مختلفة ممثلة في المجلس التشريعي الأفغاني ولا يحوز الحزب الأكبر إلا على 10% من المقاعد. ويمكن في أيّ لحظة، أن يُعتَبر حوالي ثلث أولئك المشرّعين من أنصار الحكومة، وثلثهم الآخر من أنصار المعارضة والثلث الآخر حيادي. ومثل هذا التشظّي يعني أنّ كلّ مرسوم ينبغي أن يُدعَم من قبل أغلبية تجمعها معاً الوعود الرئاسية. وبالمقابل، فإنَّ المجلس التشريعي العراقي هو أشدّ قوة وأقلّ تشظياً. ويمكن لمجلس النواب أن يعيّن ويصرف رؤساء الوزراء ووزراءهم، كما يمكن أن يسيطر أيضاً على التشريع. وتسيطر أربع كتل أساسية- هي الشيعة، والأكراد، والسنّة، والعلمانيين- على 90% من مقاعد المجلس، ولأنّ التحالف العراقي الموحد في شراكةٍ مع حزب الدعوة الشيعي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، فإنهم يحوزون الأكثرية البرلمانية.
المركزية مقابل اللامركزية
المسألة المهمة الثانية هي إذا ما كانت السلطة الجغرافية مركّزة في العاصمة أم في مراكز المناطق. وهذا البعد من أبعاد التخطيط الديمقراطي غالباً ما يكون أكثر العناصر خلافاً عليه فيما يتعلّق بالاستقرار السياسي. وقلّة قليلة جداً من البلدان هي التي اختارت الفيدرالية الكاملة على غرار إسبانيا، وكندا، وسويسرا. وفي إفريقيا، وحدها جنوب إفريقيا ونيجيريا هما اللتان تعملان ضمن إطار فيدرالي، وهو ليس قوياً على نحوٍ خاص في أي منهما. ويتطلّع اتفاق السلام في السودان إلى نظام كونفدرالي بين حكومتي الشمال والجنوب، لكنه يخرج الغرب والشرق من هذه العملية.ولدى المخططين الديمقراطيين تشكيلة من الخيارات التي يمكنهم أن يختاروا من بينها حين يتعلّق الأمر بالسلطة اللامركزية. وعلى سبيل المثال، فإنَّ هناك الفيدرالية المتناظرة من النمط القائم في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يحوز كل جزء مكوِّن من أجزاء الفيدرالية سلطة متساوية، كما أن هناك الفيدرالية غير المتناظرة كتلك القائمة في إسبانيا، حيث تحوز بعض الولايات على سلطة أرفع. وهناك الاستقلال الثقافي، الذي لا يقوم على الجغرافيا، كما هو الحال بالنسبة للمسلمين في الهند، فضلاً عن الاستقلال المناطقي، الذي يمنح جماعةً أقلوية القدرة على أن تحكم ذاتها، كما هو الحال في جنوب السودان. وهناك قوى طائفية عابرة للقوميات كما هو حال مجالس روما في أوروبا الوسطى، بل وذلك الخيار المتطرف المتمثّل في الانفصال، كما في أريتريا. والحال، أنَّ الترتيبات الفيدرالية وترتيبات الاستقلال كانت مفيدة في عدد من البلدان التي شعرت فيها الأقليات أنها مُقْصَاة مُهَمَّشة: كالشيشان في الاتحاد الروسي، المنداناو في الفيبلبين، والجايا والباندا في أندونيسيا، والتاميل في سيريلانكا.والعراق وأفغانستان هما حالتان كلاسيكيتان من حيث الاستقطاب الإثني، لكنهما تبنّتا طرفين متعاكسين فيما يتعلّق بكيفية تقسيم السلطة بين المركز والمناطق الأخرى. فالدستور العراقي يتيح إقامة مناطق وأقاليم قوية تجتمع معاً لتؤلّف قطاعاً إدارياً أكبر. وهذا ما يطرح خطر أن تطغى هذه السلطات على سلطة الحكومة المركزية في بغداد. فمثل هذه المناطق المستقلة إلى حد بعيد تحوز سلطة زيادة الضرائب، وسيطرةً قضائية فاعلة، والاستئثار بحصة الأسد من عائدات النفط في الحقول المعروفة حالياً التي تتواجد فيها. ويرى بعضهم إلى إقامة مناطق إدارية سنية وشيعية على أنّه ردّة فعل حتمية إزاء الدولة الكردية القائمة بحكم الأمر الواقع. وثمة من يستشهد بالاستقلال غير المتناظر الذي تحوزه مناطق الكاتالان والباسك في إسبانيا كمثال إيجابي على طمأنة الأقليات المتجمّعة في منطقة معينة من خلال منحها سلطة الحكم الذاتي. غير أنه على المرء ألا يغفل حقيقة أن الدستور الإسباني يسدّ الطريق صراحةً أمام اجتماع ولايتين أو أكثر كمناطق تتمتع بما تتمتع به الولاية الواحدة وذلك لسببٍ وجيه هو أنّ من وضعوا الدستور كانوا يخشون من تفكك الدولة الأمة بوصفها كلاً واحداً.وبخلاف النموذج العراقي، وفي مواجهة التركّزات الجغرافية المهمة للبشتون، والخزر، والأوزبك، والطاجيك الذين لا يثقون ببعضهم بعضاً، اختارت أفغانستان نظاماً مركزياً قوياً خالياً من أي فيدرالية أو أي حكم إقليمي أو محلي ذي أهمية. وقد شخّص الذين خططوا للديمقراطية علّة أفغانستان بأنها تتمثّل في وجود مركز ضعيف يحبط مساعيه إلى الإصلاح والتحديث هامش قوي، وفاسد، ومتشظٍّ. ولذلك اختار هؤلاء المخططون إعطاء قدر كبير من السلطة للدولة المركزية في كابول. وعلى الرغم من قيام هذا التشخيص على الحدس، إلا أنّ هذه الوصفة يبدو فيها قدر كبير من الحكمة المستمدة من مجتمعات أخرى متشظّية ومبتلاة بالصراع. فحين تتركّز السلطة في المناطق، لا بدّ أن يكون هناك إما احتكار مركزي للقوة لإخضاع الرجال الأقوياء المحليين أو موارد كافية للحيلولة دون تبعية السكان للنخب المحلية التقليدية القوية. وليس لدى الدولة الأفغانية المركزية لا الموارد ولا القوة لتحقيق أيّ من هذين الهدفين؛ فالدولة مجرّد نمر من ورق يتكئ على تحالفات متبدّلة لكي يحافظ على نزر يسيرٍ من السيطرة.