غياب المصداقية في مقال لـ نيويورك تايمز حول عفرين

غياب المصداقية في مقال لـ نيويورك تايمز حول عفرين

آسو للدراسات
بتاريخ 16 فبراير 2021. نشرت مديرة مكتب صحيفة نيويورك تايمز في اسطنبول، مقالا حول الزيارة التي قامت بها إلى مدينة عفرين الكردية وريفها <1>. علما أن هذه الزيارة قد تمّ الإعداد لها والإشراف عليها، من قبل سلطات الاحتلال التركي. لذلك جاء التقرير الصحفي مطابقا لما تنتظره منها سلطات الاحتلال. فبمجرد نشر المقال في جريدة نيويورك تايمز، حتى سارعت وكالة الأناضول التركية وجريدة ديلي صباح المقربتان من الحكومة التركية، بإعادة نشر المقال على موقعهما.

وقد عكست الكلمات المفتاحية للمقال، نية الصحفية في تقديم صورة مخالفة لحقيقة الجرائم التي ارتكبتها قامت سلطات الاحتلال التركي و الميلشيات الراديكالية التابعة لها. وذلك بما يتعارض مع كافة التحقيقات و التقارير الدولية التي صدرت من قبل لجان التحقيق ومنظمات حقوق الإنسان الدولية. كتقرير منظمة العفو الدولية 2018. وتقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة سنة 2019 و2020. والتقرير المتعلق بقيام فرقة الحمزات بإخفاء نساء عفرين في سجون سرية، و الصادر من قبل مؤسسة سوريون من أجل الحقيقة العدالة 2020 <2>. وتقرير اللجنة الدولية لحقوق الإنسان 2021. والتي توثق جميعها جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية المرتكبة من قبل الميلشيات المنضوية تحت اسم " الجيش الوطني السوري" الذي بات يشكل إلى جانب تنظيم الذئاب الرمادية، الذراع الثانية للدولة العميقة في تركيا، وذلك وفقا لبحث استقصائي نشر حديثا <3>. حيث تكفلت شركة سادات SADAT الأمنية بنقل المرتزقة لمحاربة الأرمن في كاراباخ، وبشكل خاص الميلشيا التي تعتمد أسماء عثمانية مثل" سليمان شاه" و" السلطان مراد" التي ينحدر أعضاؤها من التركمان. و ذلك في إشارة رمزية إلى إعادة قيام أذرع العثمانية الجديدة بإبادة الأرمن. <4>

ناهيك عن العشرات من التقارير التي قدمتها الصحافة الإستقصائية حول التطهير الديني ضد الأيزيدين في عفرين وريفها. إلى جانب مجموعة كبيرة من الوثائق و التقارير التي نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان حول عمليات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي في عفرين و رأس العين وتل أبيض. وجميعها وثائق متوفرة باللغة الإنجليزية و العربية ولغات أخرى. و يمكن الوصول إليها مجانا على الأنترنيت.

لذلك، لا يمكن افتراض أن الصحفية كانت تجهل حقيقة جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، المرتكبة من قبل سلطات الاحتلال في هذه المنطقة غير الآمنة. علما أنه كان كافيا بالنسبة لصحفية في جريدة مثل نيويورك تايمز، أن تراجع فقط المعايير التي تعتمدها مؤسستها لتحافظ على مكانتها كجريدة يمكن الوثوق بها. إذ لا تتعدي نسبة الذين لا يصدقون ما ينشر في جريدة النيويورك تايمز في أمريكا الـ 14% وفقا لمعهد Pew الأمريكي للدراسات <5>. و هي نسبة منخفضة نسبة إلى الوضع الراهن للإعلام المعاصرة. لذلك فإن محتوى هذا المقال يشكل فضيحة أخلاقية قياسا إلى المعايير المهنية المعتمدة على أقل تقدير من قبل جريدتها.

لغة المقال المضللة
على خلاف ما جاء بصريح العبارة في تقارير اللجان الدولية لحقوق الإنسان منذ (تقرير الأمنستي أغسطس 2018<6>. ووصولا إلى التقرير الأخير للجنة الدولية لحقوق الإنسان HRW 2021 <7>. والتي حددت الوصف القانوني للوجود التركي في سوريا بالاحتلال. استعادت كاتبة المقال توصيفا ذرائعيا مناسبة لتركيا التي حاولت دون جدوى أن تسوق لهذه الصفة ولم تفلح. مروجة بذلك للإحتلال التركي بتبنيها لعبارة "المنطقة الآمنة". وهو استخدام مضلل ومتعارض مع مفهوم المنطقة الآمنة في العرف القانوني الدولي. حيث بدأ مجلس الأمن منذ 1991/ القرار 688. بخصوص الخط 36 في كردستان العراق. ولاحقا في سنة 1993/ القرار824 بخصوص البوسنا و الهرسك. إلى اعتماد لائحة معايير مستندة على اتفاقية جنيف الأربعة 1949 و معدلة لها. بحيث جرى تنظيم مفهوم المنطقة الآمنة باشتراط وجود قرار صادر من مجلس الأمن. يحدد فيه المنطقة الجغرافية التي ستكون منطقة آمنة للمدنيين، وبأ، تكون المنطقة خالية من اطراف النزاع العسكري، ومحمية من قبل جيش أممي. وبأ، لا يؤدي إحداثها إلى حصول عمليات تطهير عرقي أو تغيير ديموغرافي. وهي معايير تمّ خرقها بشكل فاضح في كافة المناطق التي تحتلها تركيا. غير أن كاتبة المقال. لم تضع في حسبانها المعايير القانونية لصياغة تعابيرها.

يضاف إلى ما تقدم. أن النصوص القانونية التي قد حددت بوضوح لا لبس فيه طبيعة قوى الاحتلال، هي من المواد غير السجالية في القانون الدولي. سواء في لوائح لاهاي 1907. أو في اتفاقات جنيف الأربعة 1949، أو ملحقات اتفاقيات جنيف 1958. حيث ترسخ جميعها صفة الاحتلال على قوة أجنبية تغزو أرضا أخرى و تحتلها ،سواء بوجود مقاومة أم بعدم وجودها. و كذلك يفرض القانون الدولي من خلال لائحة لاهاي 1907 ( المواد 42 ـ 56). واتفاقية جنيف الرابعة (المواد 27 ـ 34 و47 ـ 78) <8>، يفرض على سلطات الاحتلال مجموعة من القيود. من بينها: أن الاحتلال لا يمنح سلطة الاحتلال حق السيادة على الأرض المحتلة. بينما تدار مدينة عفرين من قبل الوالي التركي لمدينة هاتاي. وتخضع مدينة سري كانية/ رأس العين و تل أبيض تخضعان لولاية أورافا، و تتبع مدينة إعزاز لولاية كلِّس التركية.

كما تمنع المواد القانونية الآنفة سلطات الاحتلال من تدمير المواقع الثقافية. بينما قامت تركيا و الميلشيات الراديكالية التابعة لها، بتدمير الرموز الثقافية الكردية، و نهب ممتلكات السكان الأصليين و تدميرها في منطقة عفرين و رأس العين ( الفقرة 47 ـ 48 ـ 49 ـ 50. تقرير لجنة التحقيق الأممية 2020). كما يمنع القانون الدولي سلطات الاحتلال من اختطاف السكان المدنيين، أو القيام باغتصاب النساء و المراهقات. بينما نجد بأن لجنة التحقيق الأممية قد وثقت قيام المجموعات الجهادية التابعة لتركيا و تحت إشرافها بعمليات خطف واغتصاب ممنهجة ضد النساء الكرديات. ( الفقرة 59 ـ 60 ).

كما يمنع القانون الدولي سلطات الاحتلال من تدمير التراث والممتلكات الثقافية (المادة 8. اتفاقية جنيف الرابعة). بينما نجد بأن ذات المجموعات الجهادية التابعة لتركيا، قد قامت بتدمير موقع كورش الأثري الهلنستي، وتدمير موقع عين دارة الموجود على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني، و كذلك تدمير مقابر و مواقع العبادة الأيزيدية ( الفقرة 63 ـ 64 لجنة التحقيق الأممية ).

ويمنع القانون الدولي سلطات الاحتلال من نقل السكان المدنيين ومحاكمتهم على أراضيها أو الاقتصاص منهم. بينما قامت تركيا، بنقل محتجزين ومحتجزات في مدينة رأس العين، ونقلتهم إلى تركيا وحاكمتهم وفقا للقانون الجنائي التركي ووجهت لهم تهمة الإرهاب. ( الفقرة 57 لجنة التحقيق الأممية)

كما أقدمت تركيا على نقل محصول الحبوب وغيرها من المحاصيل الزراعية إلى تركيا. بل و تضع الشركة التركية المصدرة لزيت زيتون "عفرين" إلى السوق الأوربية و الأمريكية، وكذلك الملح الذي يتم تعبئته في مدينة إدلب، بأن بلد المنشأ هي تركيا. وهو ما يبدو ظاهرا على العبوات والمغلفات التي تصدر بها هذه المواد.

وقد عمدت تركيا إلى فرض اللغة التركية، وعجلة الاقتصاد في هذه المناطقة تتحرك بالعملة النقدية التركية، كما يرفع العلم التركي على كافة الإدارات التي استحدثتها قوات الاحتلال التركي، ومن الطبيعي أن يستتبع ذلك، وصول الخدمات العامة لدولة الاحتلال كالكهرباء والقطاع الصحي. بعد أن تحولت هذه المنطقة المستقطعة من سوريا في الحرب التي تفوقت فيها الدرونات التركية على القطاعات العسكرية الكردية، إلى أرضي تركية. وباتت عفرين و رأس العين بمثابة قبرص تركية أخرى.

ترويج لأجندة الاحتلال على حساب مصداقية الجريدة
كل شيء في المقال عبارة عن تبييض للاحتلال التركي. <9> فالصحفية قامت فقط بمقابلة بمسؤولين أتراك وبعض العوائل العربية من المستوطنين في عفرين، دون العودة إلى السكان الكرد الأصليين الذين تعرضوا إلى التهجير القسري، وفقا للسياسة التي اعتمدتها تركيا من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في المدن الكردية التي احتلتها. كما سمح المقال بتمرير اتهامات مجانية على لسان المسؤولين الأتراك ضد حزب كردي.

لا يمكن أن يكون ما تقدم منصفا ولا محايدا. بل أنه يعيد مرة أخرى طرح تساؤلات حول مصداقية جريدة عريقة مثل نيويورك تايمز. فهي كمؤسسة كانت قد تعرضت لحملة من التشكيك في مصداقيتها سنة 2003 مع فضيحة الصحفي جميسون بيلر الذي تبين بأنه قد نشر مقالات مسروقة في الجريدة. لذلك وفي سنة 2004، قام مدير تحرير جريدة نيويورك تايمز بتأسيس لجنة من 18 موظفا لاستعادة مصداقية الجريدة التي اهتزت حينذاك. و من بين المبادئ التي وضعتها تلك اللجنة، هو موضوع التدقيق في مصادر المعلومات. و عدم تزوير الحقائق.

تزوير الوقائع في هذا المقال المشار إليه أعلاه. يعيد طرح اسئلة أخلاقية جديدة حول مصداقية النيويورك تايمز. و الى أي مدى يمكن لجريدة مثلها أن تضع في " أخلاقياتها المهنية " مجالا لتمرير أجندة سياسية مبطنة و ممولة بكل تأكيد. لا سيما أنه تم نشر هذا المقال بالتزامن مع إعلان قناة الجزيرة القطرية عن اتفاق شراكة مع جريدة النيويورك تايمز في منصة "ريادة " التي ستكون مخصصة للتقارير الاقتصادية المشتركة بين المؤسستين.

ومن الجدير ذكره، أن شركة فيسبوك أيضا كانت قد تواطأت مع الاحتلال التركي في عمليتها الدموية في مدينة عفرين وريفها سنة 2018. فقد نشرت مؤخرا مجلة Propublica <10>الإستقصائية وثائق تظهر أن إدارة الفيسبوك وقفت إلى جانب النظام التركي، والذي كان قد زوّد تنظيم داعش بالذخيرة، وفقا للفيديو والوثائق التي نشرها جان دوندار رئيس تحرير جريدة جمهوريت التركية سنة 2015. وحُكم بالسجن لأنه فضح التنسيق بين النظام التركي وتنظيم داعش.

خلاصة
يشبه هذا المقال نمطا خاصا من صحافة الإثارة الانجليزية، ابتكره لورد بريطاني في " هارمسورث"، و كان موجها إلى " الذين يستطيعون القراءة و لا يستطيعون التفكير". لكنه أيضا مقال يشارك مع الجناة في الجريمة عبر تورية الحقيقة. وقد كانت إحدى أسباب الغضب في الشارع الكردي من هكذا مقال، ليس لأنه يتضمن على تزوير للواقع، فذلك غير ممكن في وقت بات الواقع مكشوفا "على نحوٍ فاحش" بتعبير الفيلسوف الفرنسي بودريار. وكل ما ورد في المقال من تزييف، تفنده أكوام من الوثائق. بل لأن جريدة مثل نيويورك تايمز قبلت أن ينشر في موقعها، وعلى حساب مصداقيتها، مقال يعمق جراح الناس الذين تعرضوا للتطهير العرقي في المنطقة غير الآمنة بسبب وجود الاحتلال التركي.
________________
<1>: https://0i.is/mENx
<2>: https://0i.is/lhsm
<3>: https://0i.is/AfsX
<4>: https://0i.is/AfsX
<5>: https://0i.is/yNXQ
<6>: https://0i.is/ehji
<7>: https://0i.is/VrHP
<8>: https://0i.is/Tust
<9>: https://0i.is/jX44
<10>: https://0i.is/xiYm