حذارِ من الصين... المدّ الصاخب في المحيط الهادئ

حذارِ من الصين... المدّ الصاخب في المحيط الهادئ

جوانا محمود

الحرب في أوكرانيا، صراعٌ ماثلٌ يشدّ الأنظار إليه بالكليّة، ليغيب عن العالم ما يضطرم تحت أمواج المحيط الهادئ، اصطفافٌ بطئ إنما بخطى ثابتة ومستمرة، فاليابان دخلت لعبة التسلّح، وحرب الرقائق الإلكترونية شبحٌ يلوح في أفق المحيط، والخطر الصيني ما بعده خطر. قد تكون آسيا مربط الفرس في الحرب الجمعية الآتية، ولعبة الدومينو كما هو جليّ، لم تعد تتطلب جغرافيات متصلة.
اليابان وداعاً لعهد السلم
مدفوعةً بماضٍ كانت فيه اليابان معتدية، و الدمار المبرح الذي حاق بها بعد هيروشيما. بقيت اليابان مخلصةً لدستورها الذي يحرم الهجوم وينصّ على عدم امتلاك الأسلحة التي تحمل الطابع الهجومي كالصواريخ الباليستية أو القاذفات الإستراتيجية بعيدة المدى أو حاملات الطائرات الهجومية، ويسمح فقط باستخدام القوة للدفاع عن أراضي اليابان ضد الهجوم المباشر والفعلي.
اليوم وبعد سبعة عقود من السلم، تخالف اليابان دستورها مخالفةً صريحة، لتطلق إستراتيجية جديدة للأمن القومي، تسمح بتنفيذ الهجمات المضادة، مما يؤهلها لتبوء مكانة هجومية في انعطافة تاريخية لسياسة الدفاع التي تبنتها اليابان منذ الحرب العالمية الثانية.
رفعت اليابان إنفاقها الدفاعي بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم والحال هذه متوافق مع هدف الناتو للإنفاق الدفاعي. تستثمر في الحرب الإلكترونية والفضاء، وبرنامج تطوير مقاتلات الجيل السادس من الطائرات مع المملكة المتحدة وإيطاليا، لكن اللافت من بين كل تلك الاستثمارات هو إنتاج الصواريخ محلياً، وشراء صواريخ توماهوك الأمريكية التي سوف تمنحها القدرة التقنية على ضرب أهداف عسكرية في عمق آسيا، مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا.
الحذر من الصين
توصف البيئة الإقليمية التي تتواجد فيها اليابان، بالبيئة الأشدّ تعقيداً ما بعد الحرب العالمية الثانية، ووجودها الجغرافي إلى جانب ممر شحن عالمي رئيس تتنافس عليه الصين والولايات المتحدة، يشكل ضغطاً إضافياً. فالصين تواصل نشاطها العسكري، وحشدها السريع للسلاح حول تايوان وأية سيطرة للصين على هذا الممر يضرب الاقتصاد الياباني في مقتل.
لذلك يهدف التعزيز العسكري الياباني في المقام الأول إلى ردع النزعة التوسعية الصينية، التي تصاعدت إثر إطلاق الصين تدريبات عسكرية قريباً من تايوان في آب المنصرم، أطلقت فيه صواريخ على منطقة اقتصادية وأمنية خالصة لليابان. مخالفةً بهذا كل القوانين الدولية، ومستمرة في تبخترها على مياه المحيط الهادئ بكل الترسانة الضخمة التي تمتلك.
علاوةً على هذا استمر المعدّل المتزايد لإطلاق كوريا الشمالية صواريخها، لتسجل في رقم قياسي خلال عام، ما يقرب من مئة تجربة صاروخية، في تركيز مباشر على التطوير المتسارع للتكنولوجيا المتعلقة بالصواريخ. كل هذا دفع اليابان إلى زيادة الردع والانضمام إلى سباق التسلح العالمي وصلت إلى حدّ مخالفة الدستور.
حرب الرقائق
النار تحت الرماد في منطقة المحيط الهادئ, والاصطفافات الخفية التي سوف تتلو اشتعال هذه النار، سببها الرئيس والمباشر هو التنافس على الرقائق الإلكترونية المصنعة في تايوان. واصطفاف القوى العسكرية والجيوسياسية مبني اليوم على سوق رقائق الحاسوب، فكل شيء ابتداءً من الهواتف الذكية إلى أسواق السيارات والبورصات والصواريخ والطائرات يعمل على هذه الرقائق.
ومن يتحكم فيها يسيطر على إمدادات هي اليوم أهم من إمدادات النفط، ويسيطر بها على مصير القوى الاقتصادية الأخرى.
تصنع تايوان ما يعادل 92% من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات بدقة تقل عن 10 نانومتر، لتحتل مرتبة المزود الأساسي لمعظم الرقائق المستخدمة في الأجهزة الأعلى تقدماً في العالم، من الهواتف النقالة وحتى مقاتلات الإف 35. وانخراطها التجاري الواسع قادها إلى منافسة الولايات المتحدة التي بدأت تتراجع عن ريادتها في تصميم أسرع الرقائق، وتزيد اعتمادها على تايوان في الحصول عليها.
من هنا تأتي التحركات الصينية المتواترة حول تايوان، والتصعيد المستمر بينها وبين الولايات المتحدة وحلفائها، فالصين وحليفتها روسيا قادرتان على تصنيع الرقائق اللازمة للاستخدام العسكري، لكنها تبقى بحاجة إلى رقائق تايوان الدقيقة والأكثر تغلغلاً في السوق اقتصادياً. وترغب في التخلص من التهديد الأمريكي في خنق سوقها، غير ناسين القيود التي فرضتها إدارة دونالد ترامب في العام 2020
على شركة هواوي، بحظر تصدير التكنولوجيا والمعدات الأمريكية إلى الشركة.
الهند تصنع سلاحها بيدها
في ذكرى دستورها الرابع والسبعين، احتفلت الهند باستعراض عسكري كبير، سلّط الضوء على أسلحة صنعت في الهند. شمل العرض طائرة براشاند ، وهي أول طائرة هليكوبتر هجومية منتجة محليًا في البلاد، وصواريخ هندية مجربة في القتال فعلياً، فضلاً عن صاروخ كروز طورته بشكل مشترك مع روسيا.
يأتي هذا التعزيز الهندي المتواتر لترسانتها العسكرية، وسط التوترات الحدودية مع الصين وباكستان، ومع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، وأملاً في تقليل اعتمادها على الأسلحة الأجنبية، بدأت الهند في تعزيز الإنتاج المحلي. لتسير في ركب الردع الدفاعي تيمناً بباقي مكونات المحيط الهادئ.
الواقع في كشمير والتوترات القائمة أصلاً، والتضخم في ترسانة الصين، وتوسع أطماعها, وازعٌ يبعث على خشية الهند من أيّ خطر هجوميٍّ محتمل، في منطقة زادتها التدخلات العالمية تعقيداً، خصوصاً بعد الاصطفافات المحتملة بعد حرب أوكرانيا، والتقاطعات الاقتصادية والتحالفات الجديدة للسوق العالمي.
إلى أين؟
من الواضح أن لا الولايات المتحدة ولا حلفاؤها في وضع يسمح بخوض حرب قارية. ولكن السيناريو الناشئ في منطقة آسيا والمحيط الهادئ, يوحي بحصول تحالفات جديدة، ليس أولها إقبال اليابان على الاصطفاف المتوقع مع حلف الناتو، ولن يكون آخرها استمرار الصين في جولاتها البحرية المستفزة.
أما جولات المنطاد الصيني فوق ولاية مونتانا في أميركا، والتي سببت أزمة جعلت بلينكن يؤجل زيارته المرتقبة في تشرين الثاني إلى الصين بعد اتفاق بين بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ، يعدّ عثرة أخرى في طريق رأب الصدع في وجه طموحات الصين.
إن الشراكة بلا حدود بين الصين وروسيا وضع يزيد الجغرافيا السياسية إثارة، والمراقبة الأمريكية الحذرة لمحيط تايوان يثير الفضول حول مدى جاهزية الأخيرة للدخول في صراع مسلح على أشباه الموصلات، لكن الذي لا جدال فيه أنّ العبقرية السياسية تحتمل الكثير من الحلول قبل انفجار أيّ وضعٍ في أيّ مكان هادئ.