حوار مع د. مريوان وريا قانع (الحكم السلطاني في كردستان/ الإسلام السياسي والجندرة)
كورال نوري
الترجمة عن الكردية: سامي داوود
مَريوان وريا قانع واحد من المثقفين الكُرد البارزين في كردستان العراق. حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية والاجتماعية من جامعة امستردام / هولندا. ويعمل استاذا للدراسات الشرق اوسطية والعالم العربي في الجامعة نفسها. نشر العديد من البحوث والدراسات في السياسة والنظم السياسية، الفلسفة، الدين والعلمانية والتطرف. كما ترجمت بعض مؤلفاته الى اللغة العربية والفارسية. وقد صدر له اكثر من 20 كتابا. منها الدين والعلمانية، التفكير في العهود المظلمة، الانسان والكرامة، القسوة والتشرد، الفکر الرادیکالی: سید قطب، سلاڤو جیجیک واللیبرالیة. يكتب باللغات الكردية ، الانكليزية والهولندية. وقد انشغل مطولا بشرح وتقديم أعمال هانا آرنديت وميشيل فوكو ومدرسة فرانکفورت. كما شارك في تأسيس (مجموعة رَهند/البُعد) التي كانت لها أثر نقدي وفكري مهم في الحركة الثقافية بكردستان العراق. وقد أجرينا معه هذا الحوار لتسليط الضوء على الشأنين الكُردي والعراقي، منها أسباب فشل التجربة الديموقراطية في اقليم كردستان على مدار ثلاثة عقود من الحكم الذاتي. التحديات والمخاوف بخصوص العلاقة مع بغداد والمحيط الإقليمي؟ ناهيك عن حضور الإسلام السياسي في الميدان السياسي والاجتماعي الكردي. وموضوع الجندرة وأزمة الهوية الكردية.
المحور الأول: طبيعة نظام الحكم السلطاني في كردستان العراق
كورال:
نظرا لتوافق توقيت إجراء هذا الحوار مع الذكرى السنوية للاحتفال بالانتفاضة الكردية في اقليم كردستان العراق. دعنا نبدأ من تجربة الحكم في الإقليم. فكما تلاحظ، بعد مرور 30 سنة من الحكم الذاتي، مازال عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي سائدا في الإقليم. لماذا، من وجهة نظرك، لم يستطع الكرد في الإقليم أن يكونوا نموذجا حقيقا للحكم الديموقراطي في المنطقة.؟
د.مريوان:
الوضع في الإقليم، ليس فقط غير مستقر، بل وإنما هو متأزم بشكل خطير. وذلك بغض النظر عن التدخلات والأطماع الاقليمية للدول المجاورة لنا، بمشاريعها الامبراطورية الممتدة في جزء منها إلى أراضي الاقلیم. لنأخذ بداية العوامل والمخاوف الداخلية. إذ لم يعد خافيا على أحد أن الإقليم بات منقسما على نفسه بشکل خطیر ولا يتضمن على الحد الأدنى من الإجماع السياسي والاجتماعي. ثمة أيضا قطيعة جوهرية بين الشعب الكردي والطبقة السياسية الحاكمة للإقليم. فلم يعد الناس يثقون بحکامهم، وقد وصلت الريبة إلى حدٍ جعل الناس يعتقدون بعجز العمل السياسي على تغيير أبسط الأمور فی الإقليم، فكيف لها أن تجد حلولا للمشاکل و التحدیات البنيوية الكبرى في الإقليم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مشكلة استدماج وتحكم العائلة والعشيرة بجميع المناصب الرئيسية والهامة فی النظام السياسي والاقتصادي والأمني، بل وحتى البيروقراطي داخل الإقليم.
إلى جانب إشكالية أخرى، تجسدت في الربط الخطير بين تراکم السلطة السياسية من جهة، وتركيز جميع السلطات الاخری، منها الاقتصادية والعسكرية والأمنية بید نفس الدائرة المغلقة للحكم. بالإضافة إلى أن الانقسام السياسي العميق وتدهور العلاقة المستمر بين القوى المهيمنة في الإقليم، والتي توجهها الميول النفسية لقلة من السياسيين، معطوفة على سنوات من الضغائن والكراهية المتراكمة. ناهيك عن شعور الناس بالإحباط من إمكانية أن تفضي العملية الانتخابية إلى تغييرات ما.
يعايش الناس هذه الإشكالات الکبیرة عن قرب ويتعامل معها يوميا. ويعلم مسبقا أن مشاكل الإقليم لن تحلها الانتخابات، ولا توجد إرادة سياسية حقيقية لمعالجتها. لذلك، امتنع ما نسبته 70% من الناخبين عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة. ولم تتعدى نسبة الذين صوتو للحزبین الحاکمین سوى الـ 20%. ذلك يعني من ضمن ما يعنيه، أن مَن يحكم الإقليم اليوم اقلیة صغیرة لا تمثل الشعب.
فطبيعة نظام الحكم في إقليم كردستان هو عائلي و قبلي مغلق. وليست لديه صلة وثيقة وعميقة بالمجتمع، أو لديه في أفضل الأحوال بعض الصلات الضعيفة. لكنه في المقابل، يمتلك قوة عسكرية و أمنية مسلحة جيدا، و يتلقى دعما إقليميا من الدول التي لديها مصالح في التعاون مع هذه القوى. والشيء الصريح الذي تعلمه الأغلبية العظمى من الناس في كردستان، هو أن هذا النمودج من السلطة لا يمكنه أن يصبح قوة ديموقراطية، بل وحتى ليس في وسعها أن تتقبل الحد الأدنى من حكم دولة القانون والمساءلة القانونیة و المؤسساتية.
الديموقراطية كشكل للحكم، في حاجة إلى نخبة سياسية مؤمنة بالأسس الديموقراطية وبحكم القانون والمساواة بين الأفراد أمام القانون، وبمشاركة المواطنين في القرارات السياسية. فالديموقراطية لكي تشتغل، تكون بحاجة إلى حرية سياسية فعلية، تسمح بمنافسة حقيقية على السلطة وبالتالي مداولتها بين مختلف القوى، بحیث يصبح أولئك الذين يحكمون اليوم، عاطلين عن العمل السياسي غدا.
لا يمكن إنشاء الديمقراطية على أيدي أشخاص و قوی يعتقدون بأنهم أسياد والناس مجرد رعايا لهم. وأن الدولة و المجتمع ممتلكات شخصية لهم ولسلالتهم. فيشرِّعون لأنفسهم الحق في حكم الناس تحت مسمى الحفاظ على الحاضر والمستقل.
تحتاج الديموقراطية في حدها الأدنى إلى ثقة الناس بالنظام السياسي، وبأن التغيير الاجتماعي ممكن، وأن السلطة الحاكمة لن تحد من الاستقلالية السياسية للمواطنين. بينما لا تتوفر في السلطة الكردية الحاكمة، أقل الخصال التي تتطلبها أبسط أشكال الحكم الديموقراطي. بل يمكن وضعها على النقيض من ذلك. فالنظام السیاسی فی الاقلیم نظام سلطاني يتسنمه السلطان وعائلتە . ولا يأخذون الناس سوى في اعتبار الرعايا فاقدي الحقوق.
إحدى الانتقادات التي يتعرض لها النظام الديموقراطي، أنه يمكن أن يؤدي إلى صيغة من صيغ عدم الاستقرار السياسي. وأنە أقل كفاءة في إنتاج استقرار سياسي. غير أن الوضع القائم في كردستان العراق هو حالة مختلفة ومخيفة من عدم الاستقرار السياسي والفوضى، والتي هي نتيجة لانعدام الأسس القانونية والبيروقراطية والاقتصادية والعسكرية التي تشترطها الديموقراطية لتوجد كنظام سياسي.
كورال:
إلى أي حد ترتبط هذه الفوضى بأزمة القيادة أو الزعامة في الإقليم.؟ إذ ثمة اعتقاد بأن النضال الكردي، العسكري منه والسياسي، لم يفرز قيادة ذات رؤية استراتيجية واستشرافية عميقة، من أجل اقتراح خارطة طريق للأجيال اللاحقة. وتكون تلك الخارطة قاعدة لبناء كيان سياسي مستقر. طبعا، دون الأخذ في الاعتبار الخطاب الشعاراتي للأحزاب الكردية اليوم.؟
د.مريوان:
لا، هذه الوضعية غير مرتبطة فقط بمسألة عدم وجود قائد تاريخي. بمعنی انها لا ترتبط فقط بكفاءة رجال ونساء يمثلون حقيقةً القضية التي يعتبرها شعب ما قضيته الجوهرية. علما أن وجود قيادات نضالية بإرادة سياسية راسخة، وتمتلك رؤية ومشروعا سياسيا، و يكون بمقدورها أن تساعد في نقل مجتمعها من مرحلة إلى أخرى، سيكون ذلك دون أدنى شك، ذا أثر بليغ لإحداث تغييرات سياسية في المجتمع.
وفقا لرؤيتي، فإن الأزمة في الإقليم لا تنحصر بفكرة القيادة، بل هي أزمة معقدة ومتعددة الأبعاد، ضمنها إشكالية فهم السياسة في حد ذاتها. السياسة كإحدى النشاطات الأكثر جوهرية للإنسان. وكفعالية مرتبطة بإنتاج وإبداع الحياة العامة.
فالسياسة ليست نشاطا فرديا. و الإنسان فيها ليس منطويا ومنعزلا عن الآخرين. فی الحقیقە عندما نتحدث في السياسة، لا نتحدث عن الانسان کفرد، بل عن علاقة الافراد مع بعضهم البعض، نتکلم عن الناس. السیاسة نشاط جماعي مشترك. عبرها نبحث في العمل المشترك للناس من أجل إنتاج حياة مشتركة يرى فيها المشاركون تحققا فعليا لحياتهم الحقیقیة، وتفضي إلى بيئة يصبحون فيها أحراراً، وفاعلين بتطلعات إيجابية. ويكون القائد السياسي أحد الفاعلين في دورة إنتاج الحياة العامة المشتركة. وإن تطلب الأمر، ينبري السياسيون لتمثيل الناس في حیاتهم العامة، ويساهموا في إثراء هدە الحياة وفي الحفاظ عليها. بينما تغيب كليا هذه المعطيات عن الحياة السياسية في إقليم كردستان.
من جهة أخرى، فإن خارطة الطريق نفسها ليست شيئا يمكن لقائدٍ سياسي أن يضعها منفردا. ولا يمكن أن نختزل السياسة إلى نشاط وقرارات هذا القائد أو ذاك. فالسياسة عمل جماعي مشترك. وهي خلاصة الأنشطة الإنسانية كافة.
إن أسوأ نظرية سياسية تركت أثرا في واقعنا هي "الأفلاطونية السياسية". ذاك المبحث الذي أعادت القوى الماركسية اللينينة صياغتها وتجسيدها في مفاهيم كثيرة كـ: " الحزب الطلیعي" و" الزعيم الطلیعي " العارف بكل شيء. ما أقصده هنا بـ الأفلاطونية السياسية، هو الاعتقاد القائم على الفكرة المستمدة من مفهوم " الملك الفيلسوف" أو «الفیلسوف الملک» ( الكتاب الخامس من كتاب الجمهورية لأفلاطون). واتخاذها نموذجا لشكل السلطة. بمعنى تصوير القائد السياسي كفيلسوف ينوب عن الآخرين في التفكير. و يحدد ما الذي سوف يحدث وما لا يجب أن يحدث. و "يضع البيض كله في سلة هدا القائد"، ويمضي بالناس إلى برّ الأمان.
هذا التصور الغريب للقائد، ومن خلاله تصوير السياسة كانعكاس لنشاطه الفردي، لم ینتج تاريخيا غير الطغاة والمجرمين والهيمنة المطلقة التي انتهت بكوارث كبرى. وأؤكد مجددا بأن وجود قيادة ذات كفاءة عالية سيشكل قيمة جوهرية في أي نضال سياسي واجتماعي، و لها خصوصيتها وأهميتها. لكن الأهم هو عدم فهم السياسة كنشاط مرتبط بأفعال هذا القائد أو ذاك.
كورال:
أتعتقد بأن المشكلة ترتبط بتقليدية البرامج الحزبية الكردية، والتي تبدو كأنها امتداد لبقية النظام السياسي في الشرق الأوسط الخال حتى اللحظة من نظام ديموقراطي فعلي.؟ وذلك بالرغم من وجود شكلي للمؤسسات كالبرلمان والحكومة والسلطة القضائية. بينما لا يعكس واقعنا أي تطور في العقل السياسي لدى كل من القيادة والشعب الكردي. وبالتالي يبقى الشكل السياسي للحكم فارغا. كأنما جميع الأحزاب في الشرق الأوسط هي عبارة عن نسخٍ تتوالد من بعضها البعض. وليس بمقدورها الخروج عن دائرة القمع، لتشكيل نظام حكم ديموقراطي.
د.مريوان:
لقد شكل الحزب البلشفي اللينيني نموذجا مرجعيا للأحزاب المتسلطة في المنطقة ككل. بمختلف توجهاتها السياسية والأيديولوجية. حزبٌ يرى في نفسه قائدا للمجتمع، بيده التفسير العلمي الوحيد لظواهر العالم. يحكمه قائدٌ أوحد، يعرف مسبقا مآلات التاریخ والمجتمع، وما يجب تغييره او الحفاظ عليه.
وقد جرت العادة أن يكون لهذه الأحزاب زعيما معصوما عن الخطأ، رؤوفا وعارفا بكل شيء. يذعن الجميع له ويأتمرون بأوامره. جميع الأنظمة الدكتاتورية و القمعية في المنطقة، حكمتها أحزاب لينينة من هذه الطينة. يتسنمها زعيم بكامل الصلاحيات. غير قابل للتغيير إلا بالموت أو بالانقلاب عليه أو بالانشقاق عنه لتأسيس حزب آخر بزعيمٍ جديد. تلجأ هذه الأحزاب إلى قمع الديموقراطية داخليا على مستوى تنظيماتها الحزبية، وخارجيا على مستوى المجتمع.
بعد الانتفاضة الكردية 1991، طرأت تحولات ملموسة في صيغة العمل الحزبي اللينيني بمناطقنا. في مقدمتها: تحول الحزب عمليا إلى ملكية شخصية للزعيم وعائلته. وبالتالي تم اختزال هذه المؤسسة إلى أداة بيد رئيس الحزب، يورثها لأفراد عائلته. ولم يبقى فيها شيء اسمه ايديولوجيا ومنظور سياسي حزبي.
و سيتم تدمير أي شيء يمكن استخدامه كأداة لمساءلة الرئيس وعائلته والدائرة المغلقة المحيطة بهم ، بما في ذلك أيديولوجيا ونظرة الحزب للعالم.
يضاف إلى ما تقدم، أن الأحزاب الكردية بعد الانتفاضة، باتت تمتلك معظم الشركات المحتكرة لاقتصاد الإقليم. الأمر الذي أنتج آلية قاتلة، تمثلت في تحول السلطة السياسية إلى مصدر لمراكمة رأس المال. وبذلك انتقل السياسي من العمل الحزبي إلى العمل الاقتصادي. فبات الشخص ذاته سياسيا، وتاجرا، ومالكا للحصة الأكبر من ثروات البلد.
ثم تمت عملية تحزيب القوى العسكرية بإخضاعها لهيمنة الحزب، وعبرالحزب، أصبحت القوة العسكرية بيد أفراد من العوائل الحاكمة. ليصبح للحزب فعليا ميليشيات خاصة، معظمها تابعة لأقوى رجالات الحزب.
أما التغيير الآخر الذي حدث لأحزابنا، فهو تغوّل الحزب الحاكم و تشعبه في معظم المجالات الاجتماعية، بما فيها تنظيمات المجتمع المدني، والنقابات الصغيرة والنوادي الرياضية. إلى جانب تحكمه بالنظام البيروقراطي وتعطيله لاستقلالية النظام القضائي والعمل الإعلامي.
وقد أدى كل ما تقدم، إلى أن يصبح الحزب في كردستان بعد الانتفاضة، إلى مالك لكيان الإقليم ومؤسساته، و أن يكون أكبر قوة اقتصادية فيه، ومالكا لشبكة اعلامية عملاقة، وقوة عسكرية وأمنية إلخ. بل وحتى بات بإمكان الحزب الحاكم أن يكون كيانا لادولانيا ـ من الدولة ـ ويشتغل كدولة داخل الدولة
( كما تجسدها الإدارة المزدوجة في الإقليم). وفي النتيجة، أصبح الحزب محصنا بسلطة عصية على المساءلة، ولا يمكن السيطرة عليها.
لمتابعة القراءة يرجى الضغط على الرابط أدناه:
Download