الحرب الباردة الثانية بالتوقيت العالمي
ريوان صبري
كما مضت على العالم عقود الحرب الباردة الأولى، تتناذر في الأفق اليوم مظاهر حربٍ مشابهة، بين الولايات المتحدة الأمريكية وقطب جديد-قديم هو الصين. لقد بدأ النطاق العالمي يتضح رويداً، باصطفاف أقطاب صغيرة أخرى، ودورانها في فلك هذين القطبين، وما بدء دول البريكس في توسيع نطاقها والتلويح بانضمام السعودية، الحليف القديم للولايات المتحدة، سوى بداية تجلي متغيرات هذه الحرب الباردة الجديدة. لتبدو سماتٌ من قبيل، تغيير التحالفات التاريخية بأخرى جديدة، والضغط على الدول الفقيرة للانضمام إلى محور دون الآخر، عبر مشاريع التنمية وإعادة الإعمار، لتقع هذه الأخيرة تحت ديونٍ هائلة محتملة، عبر مشاريع البنية التحتية، والتنمية المستدامة التي تطرحها الصين. كما فعلت على التوالي في أفريقيا، وباكستان، والعراق.
في زيارة لها إلى بروكسل مؤخراً، عبّرت وزيرة الدولة الباكستانية للشؤون الخارجية هينا رباني خار، عن قلقٍ متزايد لدى الدولة السائرة نحو الانهيار الوشيك، من هذا الشرخ المتزايد بين القوتين في العالم، وخشية بلادها من اختيار أحد طرفي المواجهة الباردة. تعدّ باكستان أحد أكبر خطوط المواجهة في التنافس على النفوذ الاستراتيجي في آسيا، ودخول الصين لهذه الدولة المسلحة نووياً عبر مشاريع البنية التحتية، يعتبر خرقاً لمنطقة نفوذٍ أمريكية، رغم تخلي أمريكا عن تقديم الدعم لباكستان، بعد انخراط الأخيرة في دعم الحركات الجهادية المتطرفة في أفغانستان. إلا أنّ استمرار الضغط الصيني، وتعاون القيادات الحكومية مع هذا التوجّه، قد يقود إلى عواقب وخيمة للدولة الفقيرة.
لا تزال الصين تحاول النفوذ إلى نطاقات مقلقة، بدءاً من مبادرة الحزام والطريق، والنفاذ إلى مشاريع اقتصادية عملاقة، لإنشاء شبكات نقل عبر القارات الثلاث، آسيا وأوروبا وأفريقيا. عبر إنشاء مشاريع بنية تحتية في الدول الفقيرة بما يخدم مصالحها في ربط هذه الشبكات، لوجستياً واقتصادياً. ففي العراق وتحت اتفاق موقع بعنوان "الإعمار مقابل النفط"، أطلقت الصين مشروع الألف مدرسة، ومطار الناصرية، حيث تموّل هذه المشاريع من بيع العراق مئة ألف برميل نفط يومياً للصين، وتوضع العائدات في حساب المركزي العراقي في الصين، ويعاد استخدام هذه الإيرادات في مشاريع تقوم بها شركات صينية حصراً في العراق، بشرط العمل مع شركات مقاولة عراقية، لتوفير المواد الأولية والعمال المحليين. لقد وجدت الصين لها موطئ قدم في العراق، لتسجل هدفاً في مرمى الولايات المتحدة، في بلد غنيّ بالنفط، فقير بالبنية التحتية، تبني فيه مدارس ومطارات، ولكنها توقعه في فخّ الديون التي لن يسلم منها آجلاً.
بدأت شهية الصين تنفتح للتحول إلى قطبٍ مواجهٍ للولايات المتحدة، وفي مناطق نفوذها بالذات. وتبع هذا اصطفاف جديد لدول البريكس، وما إعلان السعودية عن نيتها الانضمام إلى هذا الحلف، سوى مسمار آخر يدقّ في وجه النفوذ الغربي، فمصادر الطاقة وهي الأهم في نظر كلا القطبين، سوف تكون الباعث الأكبر لأيّ احتكاك محتمل، مع أنّ السمات العامة، للحرب الباردة باتت واضحة اليوم، لأن الصراع يجري دوماً في مواقع أخرى، وبقع صغيرة لكن شديدة التأثير. إنّ أولى قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في مئويته، كانت : "التمسك بوضع العالم في اعتبارنا" ورغم كل الشروحات الناعمة لهذه المقولة، ونفيها لعملية النفوذ إلى مناطق جديدة، إلا أنها لا تحتوي في باطنها سوى الهيمنة، لكن هذه المرة باستخدام القوة الناعمة، وأدوات الحرب الباردة في المواجهة.