أصول العنف الديني في العالم المعاصر

أصول العنف الديني في العالم المعاصر
العمل الفني للفنانة الكردية Haja Brakhas

جوانا محمود

يتّخذ العنف الديني في أكثر صوره فاعليةً وتأثيراً، شكل الدفاع عن الهوية الدينية، متّشحاً بالطابع الرمزي لهذا الدفاع المفترض. وإذا شئنا إغفال ربط العنف بالدين لما فيه من مغالطات مفاهيمية، فإن التركيز هنا سوف يبنى على توظيف الرمز الديني باعتباره قوةً إلهية تؤثر في عقائد المنتسبين للجماعات الدينية، ومن ثمّ دفع هذه الجماعات إلى ممارسة العنف ضد رموز "الآخر- العدو" الدينية من مساجد وكنائس ومعابد وأشكال عبادة. أمّا عملية تحشيد الجموع للدفاع عن رمز معيّن، فهو فعل سياسيٌّ اجتماعيٌّ تسوقه عدّة عوامل، من أشدّها خطورة هو تناقضات الدول القائمة على أسس دينية، باتّباعها الشريعة ضمن محيط دوليّ تحكمه مبادئ سياسية مخالفة. لتقع في أحبولة تناقضٍ داخليّ يجعلها أكثر عرضة لحوادث العنف الديني جماهيرياً.

العنف الديني ومفهوم العدالة

تكتنف مصطلح "العنف الديني" سعةٌ من التنافر، فالدين بوصفه وسيلةً لفهم العالم والتعايش مع مخلوقاته، بكل رسائل السِّلم والرّفق التي يبثّها، والبحث عن الذات الإلهية للتشبّه بها، ليس له أن يرتبط بالعنف بل وينتجه في الآن ذاته. فمن أين ينبعث هذا العنف وكيف يفهمه الفرد القائم بفعل العنف؟ لقد أحرقت في بحر هذا الأسبوع، أربع كنائس من قبل الجماهير الغاضبة في باكستان، وخرِّبت خمس عشرة كنيسة أخرى، فضلاً عن أكثر من ثمانين منزلاً لمسيحيين، بعد اتهام شخصين مسيحيين بتدنيس القرآن. لقد اقتحمت الحشود منطقة جارانوالا في مدينة فيصل آباد، في مشهدٍ باعثٍ للرعب والتساؤل عن ماهية الدافع خلف هذا العنف.
يرتبط الغضب في مخيلة الجمهور الثائر هنا بمطلب العدالة، بوصفها مفهوماً أصيلاً في التقليد الإسلامي، ويغيب عن الذهن الغاضب، أنّ العنف الجائر لا يتفق بأيّة حالٍ ومقومات العدل ومقاصده كما أقرّتها الشريعة الإسلامية ذاتها. فحرق بيوت العبادة محرًّم في الإسلام تحت أيّ بند، وليس من العدل إجبار الناس على تغيير تقاليدهم ومعتقداتهم ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين﴾ [ القصص: 56]، أمّا خبر التجديف ذاته فيحتاج إلى التحقق ﴿ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ [ الحجرات: 6] فإذا كان الدين يحرّم هذه الأفعال، ما الذي يسوق هذه الجموع الغاضبة إذن؟ ولماذا يحصل هذا في دولٍ إسلامية معينة دون سواها؟

العنف الديني وقانون الدولة

رفضت المجتمعات البشرية عبر الزمن العنف الخارج عن مستحقات العدل، ووجود الدساتير والقانون التشريعي جزءٌ من محاولة تقنين هذا العنف. وحصر تطبيقه بالمؤسسات الملزمة وفق مواد قانونية واضحة وتابعةٍ جزئياً لقرارات دولية جامعة، واتفاقات نسبية بين دول العالم. أمّا الدول التي قامت على أساس ديني كما هو الحال في أفغانستان وباكستان وإيران، فتقع في منطقة حائرة بين الدولة بمفهومها الحديث وفق القانون الدولي، وبين دولة تحكم بالشريعة كونها المبرر الوحيد لوجود هذه السلطة من الأساس. تثور في هذه المساحة بين حكم الحداثة وحكم الدين زوابع ضبابية لمفاهيم كبرى مثل العدالة والشرعية وحكم الشرع.
في مطلع العام شددت باكستان قانون التجديف ليشمل الصحابة وآل البيت، وهي عقوبة تستوجب الإعدام في هذه البلاد، أقرها البرلمان في خطوة سياسية تستخدم دائماً لتصفية الخصوم واسترضاء الجموع المتشددة. في ظلّ ظروف اقتصادية صعبة. لقد بلغ معدل التضخم في باكستان 27 بالمئة، ليرتفع معه معدل البطالة في بلد يكافح لسداد ديون ثقيلة بعد فيضانات الصيف التي أودت بحياة 1739 شخصاً وتسببت في أضرار بقيمة 30 مليار دولار. هذه اللعبة السياسية الصغيرة جعلت الوعي الشعبي جاهزاً لتطبيق قانون التجديف بذاته، وتبدأ هذه الكارثة الإنسانية في حقِّ أقلية ضعيفة.

توظيف الرمز الديني

قصة طريفة تتواتر في السيرة النبوية هي إسلام أبو سفيان، هي ردٌّ عمليٌّ من التاريخ على التجديف بالصحابة وآل البيت. فلدى فتح مكة ودخول جيش الإسلام سلماً إلى رحاب المدينة المقدسة، دعي من فيها إلى مبايعة النبي بذكر الشهادتين، فلما قدم أبو سفيان إلى النبي، بايعه بأشهد أن لا إله إلا الله وتوقف. وعندما سأله النبي أن يكمل بأنّ محمداً رسول الله، قال أبو سفيان: أمّا هذه ففي النفس منها شيء ! بغضّ النظر عمّا تواتر بعدها من إسلام أبو سفيان بعد اتفاقات بينية تعطي بعض الحقوق الخاصة لبيت أمية. فالأهم هنا سماحة النبي محمد، وحِلمه منقطع النظير في سلسلة المبايعات هذه. والدليل أنّ عنق أبي سفيان لم تضرب في ساعتها لو كان الإسلام بهذا العنف المتصوّر اليوم.
من شقوق هذه الحكاية نرى أنَّ المقدَّس ذاته متسامح، لا يأبه لرفضٍ أو تشويه. المقدّس محايد سرمديّ في قدسيته، منسي في هذه السرمدية. أمّا تفسيره فهو المتحوّل الباقي عبر العصور. يخترق جدار المعاصر بمفاهيم خاصة مدفوعة بالجديد من السياسة و المجتمع والاقتصاد. يصنع رموزاً خالية من جوهرها لتقود إلى العنف، فالعنف يفسَّر بطبيعته الرمزية، وجوهر الدين يختزل في رمز، فهل القرآن بحاجة لمن يدافع عنه في هذا المظهر الجديد من الثورة الجماهيرية؟ حتماً لا. لكن توظيف المقدّس بإضافة دلالات أيديولوجية ضرورةٌ لإعادة ضبط المجتمع، لعبة مزدوجة خطرة تلعبها الدول القائمة على أساس ديني لتبرير شرعيتها، غير آبهة بنتائج اجتراح قوانين مرضية لجمهور أنهكه الفقر والأمية.

الأميّة الدينية ووسائل الميديا

يتنامى العنف الديني اعتماداً على عامل بنيوي وحيويّ هامّ هو الأمية الدينية، خصوصاً في حالات الضغط والتأزم اقتصادياً ومجتمعياً. إنّ ضعف موارد الدولة وأزماتها الاقتصادية، يلعب دوراً رئيساً في انخفاض سوية التفكير الديني النقدي، يواكبه ضعفٌ في تأهيل رجال الدين لينشأ رهطٌ من القيادات الدينية الجاهلة بمعنى وتاريخ الدين وسياقاته المختلفة. وبملاحظة أنَّ هذه الاضطرابات تكاد تنعدم في الدول العربية وهي مهد الدين الإسلامي، فعلى الباحثين دراسة تأثير صعوبة إيصال المعلومة عن اللغة العربية، في شرح الفكر الإسلامي الأصيل. واستغلال الدعاة الأميين لجهل الجماهير بلغة القرآن أو فهم شروحاته الأصلية. واستغلال ضعف التعليم بشكل عام في الدول شبه المنهارة تعليمياً مثل أفغانستان وباكستان للدفع نحو التطرف الديني.
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي والميديا أيضاً، على تدوير العنف في زمن العولمة وتوسيع انتشاره. لتساهم في إيصال معلومات دينية خاطئة إلى جمهور تنقصه المعرفة. يستخدم المتطرفون هذه الوسائل لنشر ثقافة الخوف والدمار في العالم بأسره. لتستند الجماعات المتشددة على نسق من الأصول الحكائية ليست من أصل الأديان السماوية مطلقاً وتبرر به عنفاً ضد الآخر. وعندما تودّ جماعات دينية معينة تحقيق استقلال سياسيّ على أساس ديني، فإن الحركات المقابلة تردّ بالطريقة ذاتها مما يعزز دائرة العنف والحقد في المجتمعات ككلّ.

خاتمة

ليس الدين معزولاً عن السياسة أو تدبير الشؤون العامة للمجتمع، ومن الصعوبة بمكان اعتباره مؤسسة منفصلة عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عموماً، وتشجيع ممارسة العنف الرمزي من قبل الدول الدينية ذاتها، سوف يقود بشكلٍ ما إلى انهيار تلك الدول قياساً إلى تناقضاتها الداخلية.
إن ممارسة العنف الرمزي حربٌ أخلاقية في نظر القائم به، تستند على تفوق روحيّ للمهاجم ووعدٍ بالجنة واليوم الآخر، لن توقفه سوى المعرفة وتطبيق قوانين تحمي الجميع في الدولة الأمّ. دون أن تحابي "الفرقة الناجية" عن باقي المجتمع.