تركيا: باكستان أخرى على المتوسط

تركيا: باكستان أخرى على المتوسط

سامي داوود

أطلق هارولد آرمسترونغ اسم " الذئب الرمادي/ دراسة وثيقة للدكتاتور. منشورات جامعة فرجينيا 1933" على سيرة كمال أتاتورك، مؤسس تركيا وحاكمها لثلاث دورات انتخابية (1927 وإلى 1935). ليتحول الاسم ذاته إلى رمز للعُصاب العرقي التركي، وإشارة استخدمها حتى وزير الخارجية جاويش أوغلو في الأورغواي( نيسان/2022 ) أمام متظاهرين أرمن اعتصموا ضد زيارة الوزير التركي في ذكرى المذابح الأرمنية التي اقترفها العثمانيون سنة 1915 وينكر الأتراك تكييفها القانوني والأخلاقي. كما وباتت التسمية ذاتها تطلق على تنظيمٍ محظور في بعض الدول الأوربية كألمانيا وفرنسا، أي" الذئاب الرمادية" الجماعة التي ينحدر منها محمد علي آغا الذي قتل رئيس تحرير جريدة ملييت "عبدي إيكجي" في اسطنبول 1979، وبعدها بسنتين حاول اغتيال بابا الفاتيكان البابا بولس الثاني.
ترسّخ هذا التنظيم في عمق الدولة التركية مع بدء الانقلابات العسكرية في تركيا بداية الستينات. حيث كانت المؤسسة العسكرية تشكل المرجع الأساسي للسلطات شبه التشريفية الأخرى. فمنذ تأسيس الجمهورية التركية، تسنم أتاتورك قيادة الجيش، ليأخذ لاحقا منصبا مدنيا. لكن حينذاك، كان يوجد حزب واحد فقط في تركيا، هو حزب الشعب الجمهوري الذي تزعمه أتاتورك. فكان الحزب بمثابة الجناح السياسي للجيش. وهكذا، مع بداية الخمسينات بدأت تظهر أحزاب أخرى، وشارك الحزب الديموقراطي بقيادة عدنان مندريس في الانتخابات الرئاسية سنة 1950، التي انتصر فيها على حزب أتاتورك. فقامت مجموعة من الضباط بتنسيق العمل السري بينهم، وتأسيس كيان" الدولة العميقة". ليتم الانقلاب سنة 1960على مندريس وإعدامه، وتعود السلطة مجددا إلى مسارها العسكري بمسميات مدنية. حينذاك بدأت تصفيات الخصوم تظهر باسم تنظيم الذئاب الرمادية الذي ظلّ ذراعا وحيدا للدولة العميقة في تركيا، إلى أن بدأت الحرب السورية، وتدخل شركة سادات الأمنية في الصراع بذراع جديد من الجماعات الجهادية المنضوية تحت مسمى" الجيش الوطني السوري"

كانت عبارة " الأعداء الداخليين" هي موضوع خطاب أتاتورك في وداعه لمؤسسة الجيش، وهي العبارة ذاتها المحفورة على قبره، والتي وسمت عمليات التصفية الداخلية ضد الخصوم السياسيين للدولة العميقة، أي الأكراد والأرمن واليسار التركي. كانت تلك الدعوة تقويضا لوظيفة الجيش في الدستور كحامي للدولة في إطار الحرب وتحييدا له في أي نزاع سياسي بين القوى المتنافسة على السلطة. وقد أظهرت فعالية الانقلابات العسكرية منذ 1960 إلى 2016 ، قدرة هذه المؤسسة على سحب الصراع السياسي إلى عمق الدولة، وبشكل منفصل عن العملية السياسية وبروتوكولاتها الانتخابات. حتى المسرحية الهزلية لمحاولة الانقلاب الفاشلة 2016 ـ لم يسبقه انقلاب عسكري فاشل في تاريخ تركيا ـ، منحت الحزب المهيمن على السلطة منذ عشرين سنة، أي العدالة والتنمية، قدرة استثنائية على تعديل الدستور 2017، وتكثيف السلطات مجددا بيد زعيم واحد، على غرار ما وفره حريق البرلمان الألماني من ذريعة لهتلر في إصدار قانون التمكين 1933، الذي جمع في يده الصلاحيات الضرورية لأي دكتاتور.

ولدت تركيا بعد ستة قرون من حكم الخلافة العثمانية 1923،1300. فترسخ إرث ثقافي من الولاء للمستبد القوي، تغلل في الميول الاجتماعية داخل دولة لا يستجيب معظم شعبها سوى لفكرة الزعيم القائد. هذا التعارض بين الرغبة الطوعية للشعب في الخضوع للرجل القوي، وتفضيله على التعددية السياسية، جرّد العملية الانتخابية التركية من رمزيتها المؤسساتية. وقد أظهرت الانتخابات أن الرجل القوي حينما يخسر، يعيد هيكلة المؤسسات بما يجعلها تعمل لمصلحته. مثلما حدث في بلدية اسطنبول المكونة من 34 بلدة، حينما خسرها أردوغان سنة 2019 أمام أكرم أوغلوا الذي صرح لجريدة اللوموند الفرنسية بأن الحكومة قد غيرت التوزيع الإداري للبلديات التابعة لاسطنبول، لتدخل المناطق الكبيرة مجددا تحت إدارة حزب العدالة والتنمية، فيما تُركت المناطق الصغيرة للفائز في انتخاباتها. مع هذه الآليات المؤسساتية، يبدو معقدا أكثر من قبل أن تتحول تركيا إلى دولة مدنية تحمل بداخلها كتلتين متعارضتين هما : شدة العُصاب العرقي أو الابتهال الجماعي بالشر ودولة القانون على الحواف الأوربية.

غيّرت الحرب الأهلية السورية الحدود الجغرافية والسياسية لتركيا التي باتت تحتل رسميا الأراضي السورية بمساحة تصل إلى 8835كم مربع تتضمن على ألف بلدة. وألحقتها إداريا بولاياتها الحدودية، التي اعتبرها وزير الداخلية سليمان صويلو في لقاء تلفزيوني، بأنها جزء من أراضي الميثاق الملي العثماني. وهو ما كرره رئيسه أردوغان خلال مقابلة مع قناة CNN ـ 29 أيار2023، بأنه لن ينسحب من الأراضي السورية حتى ولو تصالح مع نظام البعث السوري.
تجاوز حجم التورط التركي في الحرب السورية حدود الجغرافيا، بعد تأسيسها لمجموعات " مرتزقة" تعمل لصالحها تحت إشراف مؤسسة سادات الأمنية، وتوجهها أينما تريد، إلى الجبهات التي تدر بالنفع على المشاريع التركية في ليبيا وأذربيجان، دون أن تخلف خسائر في صفوف جيشها من المواطنين الأتراك. حتى أنها لم تكلف خزينة الدولة الكثير من الرواتب بعد تخلفها عن دفع ما وعدت به للمرتزقة الموفدين إلى جبهتي كاراباغ وليبيا وفقا لتقرير استقصائي قدمته إلزابيث تسوركوف .

أدت هذه الأمور إلى ظهور مقاربات كثيرة حول تحول تركيا إلى باكستان أخرى على المتوسط، ضمن جغرافية معقدة من الصراعات العرقية الداخلية، بينها وبين الأكراد، وبين الأتراك والعرب في صيغة أزمة اللاجئن السوريين. والصراع الحدودي على حقوق التنقيب في المجال البحري مع اليونان، ناهيك عن استمرار احتلالها لجزء من الجزيرة القبرصية منذ 1974. وإبرامها مؤخرا اتفاقا حدوديا مشبوها مع الحكومة الليبية في طرابلس. ناهيك عن زيادة التنابذ الثقافي بينها وبين الاتحاد الأوربي، بعد إعادة أسلمة أردوغان للحياة الاجتماعية في تركيا، مثلا، كان جمهور منافس أردوغان في الانتخابات الرئاسية بآخر حفلة في أزمير نيسان 2023 مختلطا بين الجنسين، بينما جاء جمهور أردوغان في كتلتين منفصلتين وفقا للجنس. بالإضافة إلى أزمة الانتماء اللوجستي لحلف الناتو وشراء المنظومة الدفاعية الروسية إس 400.

وقد سبق لعضو مجلس الشيوخ الباكستاني " مشاهد حسين" أن نبّه رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، من مغبة أن تقوم تركيا في سوريا بتكرار السياسات الباكستانية في أفغانستان حينما دعمت طالبان. وذلك بعد تأسيس تركيا للجيش الوطني السوري 2016. ناهيك عن وجود قراءات تقارب بين ظهور الدكتاتور الباكستاني ضياء الحق وتفرده بالسلطة بعد استفتاء 1985، والذي تصرف كـ خليفة حتى وفاته وفقا لقراءة الخبير في الشؤون الآسيوية مايكل كونغلمان.

لا يخفى أن القصر ذي الـ 400 غرفة الذي بناه أردوغان لسلطنته، واستعادته لفكرة الميثاق الملي لتوسيع حدود تركيا على حساب الدول الفاشلة المحاذية لها كسوريا والعراق، يكشف سياسة استعمارية منبثقة من العمق العثماني وتقريبا بالأدوات ذاتها. أي الذريعة الدينية لخداع الشعوب المخدرة بالجهل، واستخدام المرتزقة الذين كان اسمهم في التاريخ العثماني الجيش الانكشاري.

فالتورط التركي في حروب المنطقة، واستغلال المواد الطبيعية كالمياه لابتزاز دول الجوار، وعدم اعترافها بالقوانين الدولية لإدارة مشكلتي الأمن والمياه، وصلاتها والوثيقة بالتنظيمات الارهابية كداعش وفقا لما نشرته جريدة جمهورييت التركية سنة 2015. وتفرد أردوغان بالسلطة مع فريقه المنتخب وفقا لتراتبية الولاء له، ضمنهم مدير استخباراته الجديد، والناطق السابق باسم رئاسة الجمهورية ابراهيم كالين الذي كان ينشر مقالات في علم الاجتماع من منظور اسلاموي، ضمنها رفضه لفكرة حاجة المسلمين إلى فولتير للقيام بالإصلاح الديني. سيضاعف من مستوى التوتر الاجتماعي داخل تركيا، ويعززه بالعنف المترسخ في تاريخ هذه الدولة.

وعلى الرغم من الفوارق الاقتصادية بين باكستان وتركيا، إلا أن مسار التقاطع بينهما يزداد شدة. فالخطاب التركي المعاصر يعيد على غرار الدكتاتور الباكستاني ضياء الحق، من الخلط بين القومية التركية والدين. معززة بسياسات القوة الناعمة التركية عبر الدراما التلفزيونية المشكلة من آلاف الحلقات، والمترجمة إلى اللغة الأوردية في باكستان، وكذلك إلى العربية والكردية التي تنشر في المخيلة الشعبية، وبسذاجة مفرطة، السردية التركية في المنطقة. ناهيك عن المؤسسات الخيرية التركية الموزعة بغطاء ديني في الإقليم وكذلك في افريقيا.
وقد تطابقت رؤية السفير الباكستاني السابق في واشنطن حسين حقاني، مع رؤية السفير الأمريكي السابق في تركيا إيريك إيدلمان لصحيفة بلومبرغ بأن تركيا لم تصبح بعد باكستان جديدة، لكنها مع أردوغان باتت على المسار المفضي إلى تحولها لباكستان أخرى على المتوسط.

هوامش:
1ـ راجع بهذا الصدد دراسة" الدولة العميقة في تركيا : الذئاب الرمادية والجيش الوطني السوري. دراسة مشتركة لـ Dr. Hay Eytan Cohen Yanarocak & Dr. Jonathan Spyer
مركز آسو للدرسات على الموقع التالي : https://asostudies.com/node/216
2ـ مقابلة تلفزيونية مع وزير الداخلية التركية سليمان صويلو على الرابط التالي
https://www.youtube.com/watch?v=Lf0xprq2Lg8&t=2s&ab_channel=TV100
3ـ مقابلة أردوغان مع القناة الأمريكية على الرابط التالي
https://arabic.cnn.com
4ـ إلزابيث تسوركوف/ المرتزقة السوريون يخوضون حروبا خارجية بالوكالة. على الرابط التالي
https://asostudies.com/node/202
5ـ Pakistan and Turkey: A comparative study
https://www.dw.com/en
6ـ نفس المراجع السابق
7ـ ابراهيم كالين، القصة المكررة للبحث عن فولتير مسلم على الرابط التالي : https://www.turkpress.co/node/46764
8ـ Turkey Is Turning Into the Next Pakistan.
By Eli Lake Bloomberg March 2018