مدن الأشباح: فراغ ثقيل في الأزمة العقارية الصينية

مدن الأشباح: فراغ ثقيل في الأزمة العقارية الصينية
العمل الفني David Nash

ريزان يوسف

كثيراً ما سمعنا عن الفقاعات العقارية، والتي تسبّبت في أزمات اقتصادية في دول عدّة، لتمضي سنوات قبل أن تتجاوز هذه الدول أزماتها، لكن أن يحدث هذا في دولٍ كبرى مثل الصين، فإن هذا يثير مخاوف من تأثر الاقتصاد العالمي برمّته تبعاً للارتباط القائم بين سلاسل الإمداد عموماً، وكون التنين الصيني يصدر أزمته العقارية على مدار عامين إلى نطاق دولٍ أخرى، كما هو الحال في مغامراتها العقارية في أفريقيا، أثيوبيا ومصر تحديداً، والشرق الأوسط كما هو حال مشاريع المرافئ والطرق ضمن حزمة مشاريع طريق الحرير. فضلاً عن توغلها في مشاريع كبيرة في باكستان المديونة أًصلاً، واضعة نصب عينيها أفغانستان وغيرها من الدول الفقيرة التي لا تحتمل أيّة خسائر أو مغامرات.

بداية الدومينو
بدأت الحكاية الخفية مع انهيار شركة إيفرغراند، كبرى الشركات العقارية في الصين وذلك سنة 2021، بمديونية وصلت إلى 300 مليار دولار وفق رويترز، لتستمر لعبة الدومينو في انهيار سوق العقارات في الصين، حتى أصبح الريف مواقع لمدن أشباح، أبنية قائمة دون ساكنين، وزاد انهيار المبيعات داخلياً حتى وقعت شركات أخرى كبرى في شرك الإفلاس رغم وعود الحكومة الصينية بدعم هذا القطاع. لكن جلّ ما قامت به هو وقف التداول على أمل استقرار السوق.
أول هذا الأسبوع وقفت مؤشرات الأسهم الصينية، في أدنى سوية لها مع فتح الأسواق الآسيوية بسبب هذه الأزمة العقارية، لتشير إلى استمرارية هذا الانهيار، فقد هبطت قيمة أسهم شركة أخرى هي كانتري غاردن ليقود إلى بيع بالجملة لكل أسهم العقار في الصين. فالمجموعة العقارية تخلفت عن سداد المستحقات الدولية. لتتبعها شركة أخرى هي شيمو غروب في إعلان خسائر تصل إلى ما يقارب سبعة مليارات دولار بعد إعلان إفلاسها في العام ذاته وهو عام الشؤم بالنسبة لسوق العقار الصيني 2021.

قامت بنوك عالمية مثل بنك HSBC بتجنيب مزيد من الخسائر خوفاً من استمرار التدهور في السوق العقاري في الصين، وأعلن في اليومين الماضيين أن من بين كل 1,1 مليار دولار من تكاليف الخسائر الإئتمانية المتوقعة في الربع الثالث، فإن 500 مليون دولار منها يعود للقطاع العقاري في الصين. ليضع البنك مبلغ 800 مليون دولار في صورة تجنيب خاص، مقابل ملف العقار الصيني لهذا العام. أما مؤشر مورغان ستانلي فقد توقع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 4,7 بعد أن كان 5 بالمئة. بينما خفض باركليز التوقع إلى 4,5 بالمئة.

نظام الظلّ المصرفي
يتحدث خبراء أن أزمة القطاع العقاري يمكن أن تطال بين 25-30 بالمئة من حجم الاقتصاد في الصين، فتعامل الشركات العقارية مع صناديق التمويل والشركات الوسيطة، ينشر عدوى الانهيار وفق سلاسل محكمة تتورط فيها نطاقات أوسع دون أن تقتصر على قطاع العقار وحده. إنّ واحدة من كبرى شركات التمويل الخاصة وهي شركة"جونغ رونغ إنترناشيونال ترست كو" تخلفت عن سداد التزاماتها هذا الأسبوع، لتهبط أسهمها بقوة بعد فشل تغطية الأوراق المالية بالسيولة اللازمة والتي تعاني منها أسواق العقارات منذ عامين.
تعتبر شركات التمويل وصناديق الاقتراض هذه، قطاعاً وازناً في الصين بحجمه وعملياته المالية، لتظهر صيرفة الظلّ بثقل واسع هنا، وتعرف عموماً بأنها أعمال وساطة إئتمانية تقوم بها مؤسسات خارج إطار النظام المصرفي التقليدي الخاضع للرقابة. ولا يخفى على أحد استخدام هذه الشركات نقود المخدرات في القطاع المصرفي الرسمي لتقديم حلول التمويل للشركات التي لا تتمكن من الاقتراض المباشر من البنوك نتيجة القيود المشددة.
مع تزايد الفساد في القطاع العام والتوظيفي في الصين، ومحاولة الحكومة حصر الفساد عبر تشديد القيود على القطاع الخاص، بدأ الخلل يظهر لينشأ عنه هذا الانهيار الواسع، معبراً عن تناقضٍ قائم في الصين بين النظرية والتطبيق. لقد بدأ التشديد يأخذ أوجه في تثبيت قواعد سلامة رأس المال للشركات، وفوائد الاقتراض من المصرف الرسمي، ليتبع هذا انهيار الطلب على العقارات محلياً وخارجياً، وتنتج عنه خسائر بنظام الدومينو بين شركات العقارات نحو شركات التمويل الوسيطة التي يصل حجمها إلى 3 تريليون دولار.
سلسلة عثرات
إن فقاعة العقارات خلّفت عدداً كبيراً من مدن الأشباح في الصين، مدنٌ كبيرة خالية من البشر، لن يتمكن الشعب الصيني من ملئها جميعاً. أما النتائج المباشرة للأزمة العقارية فهو ارتفاع معدل البطالة إلى مستويات أعلى، وتراجع ثقة المستهلك المحلي والأجنبي بالشركات العقارية. فأسعار البيوت الجديدة انخفضت بمعدل 0,3 بالمئة على أساس شهري، ليستمر تراجع سوق العقارات بشكل مطرد ومستمر. يلعب كذلك تراجع عدد المواليد في الصين في مستقبل أكثر قتامة لهذه السوق.
يحتاج إصلاح قطاع العقارات إلى سنوات قد تستطيل إلى عقود فالشركات العملاقة مثل إيفر غراند وكانتري غاردن لا تجد أفقاً قريباً للخلاص من هذه الأزمة، وتدخل الحكومة لم يكن حاسماً خاصة بعد إغلاقات كورونا وما تلاها من ضعف التعافي الاقتصادي، فضلاً عن ضعف توقعات النمو. وتردد الحكومة في التدخل بحزم تحفيز قوية جعل تحقيق نسبة النمو المتوقعة أمراً بالغ الصعوبة. صرح مدير البحوث في شركة كينجستون سيكيورتيز إن الحكومة أكدت عزمها على دعم القطاع العقاري، دون تحقيق هذا الوعد والشهر القادم حاسم لشركة كانتري غاردن التي تهوي أسهمها، دون أن تفعل الحكومة الصينية شيئاً سوى وقف التداول على أمل تحريك السوق.
تحاول الحكومة الصينية أيضاً تخفيف ضغوط انهيار القطاع عبر تعليمات مالية مثل خفض الحد الأدنى للدفعات والسماح بتعديل الرهن العقاري. لكن هشاشة الوضع الاقتصادي بعد أزمة كورونا لا تساعد في دعم مالي حقيقي، يمّكن هذه الشركات العملاقة من خفض خسائرها المتوقعة خلال السنوات القادمة. فضلاً عن توسيع الإنفاق العسكري بعيداً عن دعم الاقتصاد والنمو المحلي، واستمرار الاستفزازات بينها وبين الولايات المتحدة التي تضعها على قوائم حظر ترفع من نسبة البطالة، كما فعلت في قراراتها الأخيرة حول حظر بيع الرقائق المتقدمة إلى الصين.

أزمة اقتصادية عالمية
إن الصين بوصفها ثاني اقتصاد في العالم، تلعب دوراً في التأثير على الاقتصاد العالمي في ظلّ هشاشة وضعه بعد الأزمات المتلاحقة عالمياً من كورونا إلى حرب أوكرانيا وحرب الشرق الأوسط مؤخراً. وانتقال الأزمة من القطاع العقاري إلى المالي في الصين بارتشاح نقص السيولة نحو شركات التأمين المالي تقود إلى دوامة عالمية، تبعاً لتغلغل هذه الشركات في البيئة الاقتصادية في الخارج، وتشابك معظم الاقتصادات الرئيسية في العالم، مع توقعات الركود التي قد تطال القطاعات المماثلة في اقتصادات أخرى.
لقد خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي للاقتصاد للعام 2024، وصرح بوضوح أنّ الأزمة العقارية في الصين خلف هذا خفض التوقع هذا. والآثار غير المباشرة على الاقتصاد العالمي سوف تعصف بالعالم لأعوام متوالية. فتقلص قطاع العقار في هذه الدولة الكبيرة سوف يؤثر مباشرة على مستقبل الصناعات الثقيلة، وبالتالي على الإسمنت والزجاج وباقي السلع الأساسية عالمياً، وقد تخلف بطالة واسعة في المناطق الصناعية للمواد الثقيلة في الصين لتواجه الدولة شبح خفض نمو آخر على وقع هذه التداعيات.
سوف تشهد مستويات النمو في الاقتصاد الصيني هبوطاً قياسياً على مدى سنوات، في اتجاه نزول دائم قد يصل إلى عقود، لتدفع فاتورة النمو السريع والمضاربات العقارية ويدخل سوق العقار في دائرة مفرغة من الأزمات المتوالية، وقد تدخل موجة إفلاس شركات التأمين والإقراض الاقتصاد الصيني في تداعيات خطيرة ليس آخرها الركود مع ضعف كل المؤشرات التي أبدتها البيانات الحكومية، والتي أدت إلى تباطؤ نمو الناتج الإجمالي المحلي. وعلى العالم أن يبدأ بفصل سلاسل الإمداد وفق المتاح، حتى لا يؤثر سقوط الفيل الكبير فيضاناً مدوياً.