المطحنة البشرية في سوريا

المطحنة البشرية في سوريا

سامي داوود

زار المؤرخ الفرنسي VOLNEY سوريا ومصر بين عامي 1785ـ 1783، مدونا ملاحظاته في كتاب " رحلة إلى مصر وسوريا". حينذاك، لم يكن لسوريا شكل سياسي ولا هوية ثقافية خاصة. وكانت الشعوب القاطنة في هذه الجغرافية تُعرّف وفقا لخصائصها الإثنية أو المذهبية، كالكُرد والمسلمين والمسيحيين والأيزيدين والدروز والعلويين والاسماعليين. وكان الاحتلال العثماني يغير اسماء التقسيمات الإدارية للولايات وكذلك مساحة كل ولاية. كتب VOLNEY حينها بأن السوريين يعاملون بعضهم كأعداء، ويتمايزون وفقا لتصنيفات متعارضة، تضعهم في حالة حرب دائمة. استخدم VOLNEY التسمية الجغرافية "سوريا"، للحديث عن فضاء مكاني دون حدود، وتقطنه شعوب منقسمة، وتنتمي لهويات لا جامع بينها سوى التنكر لما هو خارجها.
وكان الدين آلية تحكم، يشتغل كروحية سياسية للجماعات الأهلية، وديناميك عاطفي قابل للتوظيف العسكري من قبل الفئة المهيمنة على السلطة. استخدمه العثمانيون والصفويون عبر تحويلهم للكيانات المذهبية إلى تقسيمات اجتماعية وطَوْءفته سياسيا، علما أن العنف المذهبي كان قد تكرس في الانفعالات الدينية الاسلامية عبر ثلاثة قرون متواصلة من الحروب الطاحنة، لملمها في تسلسل تاريخي مقتضب، كل من جورج طرابيشي وفيليب حَتي وآخرين.
تطور الاستثمار في الانفعال الديني بعد الحرب العالمية الأولى. أنشأت اليابان مسجد طوكيو الكبير سنة 1937. وحاولت أن تنافس ألمانيا في التحكم بالمشاعر الدينية، حيث كانت هذه الأخيرة أكثر الدولة الأوربية حضورا في العالم الإسلامي عبر بعثاتها الاستشراقية. وقد ترأس إحدى تلك البعثات، موظف في وزارة الخارجية الألمانية اسمه "ماكس أوبنهايم" الذي قدم نفسه مستشرقا مختصا في عالم البدو العرب، ودرس خصالهم الحربية وعاداتهم الحياتية في عمل ضخم مشترك رفقة مستشرقين ألمان آخرين. فبدأت صورة الإسلام كـ "ديانة حربية" جامحة تلفت نظر هتلر وموسوليني اللذان كانا على علاقة طيبة مع مفتي القدس أمين الحسيني وفقا لما يذكره الحسيني في مذكراته. وكان هتلر مدركا لطريقة أتاتورك في استغلال الإسلام للتلاعب بالمشاعر العدوانية. وبدأت هذه الدول في دمج الانفعال الديني بالنشاط العسكري للإمبراطوريات المتحاربة، فظهرت مجددا عبارة "الأعداء الصليبين" تسري في الخطاب السياسي، لدى اليابانيين ضد البريطانيين في الهند والصين، ولدى الأتراك والألمان في سوريا ومصر وفلسطين.
علما أن التسمية الرومانية " سوريا " ظهرت في القرن الثالث قبل الميلاد، وفقا لتخمين غير دقيق من قبل هيرودوت. واختفت هذه التسمية من السجلات الرسمية ابتداءً من القرن السابع الميلادي وحتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حينما ظهرت الـ " سالنامه" العثمانية كتقويم إداري خاص بولاية سوريا سنة 1868. وكانت تشمل حينها فقط مدينة دمشق وصولا إلى منطقة حوران. بينما ظلت ولاية حلب مستقلة بنفسها حتى سنة 1925.
تجول VOLNEY على غرار ما فعله مارك سايكس في سوريا، ممتطيا الدواب للتنقل بين المدن الريفية الصغيرة. حينذاك، لم تكن هناك مواصلات ولا تعليم في سوريا. والطرق الرومانية القديمة كانت محطمة بالحروب. فشق الطرق تأخر حتى سنة 1883 وضمن مساحات ضيقة. وذلك رغم بعض المحاولات التنموية السريعة التي قام بها إبراهيم باشا خلال فترة حكمه لسوريا بين عامي 1831 ـ1840. ومع الأمية وانعدام المواصلات، كان طبيعيا أن تجهل الشعوب السورية بعضها البعض. لذلك، لا توجد ولا وثيقة واحدة تحمل سمة مشروع سياسي سوري مشترك. والتحول الذي حدث في السلطة بعد خروج الاحتلال العثماني 1918، حدث عبر انتقال السلطة من الولاة العثمانيين إلى " طبقة الأعيان" وفقا لتعبير آلبيرت حوراني. وظلت السلطة منذ 1920 حتى 1949، محصورة بيد 52 عائلة من برجوازية المدن الذين كانوا امتدادا لطبقة الموظفين والتجار العثمانيين. وبالتالي، التحول في السلطة لم يحدث سنة 1920 مع أيفاد البريطانيين لـ فيصل ابن الشريف حسين من الحجاز إلى دمشق التي حكمها لسنتين فقط. بل بدأ تدريجيا مع التحول في السياسات الزراعية، وظهور العقائد الشوفينية في سوريا لدى النخب المتعلمة التي تبنت حرفيا، وبتأثير من المتعصبين القوميين الأتراك، والنازيين الألمان، المفهوم البروسي لـ "الأمة المحاربة". بالإضافة إلى عوامل أخرى، كانتقال الكلية العسكرية من دمشق إلى حمص، وبدأ عملية ترييف الجيش، وتحويله إلى جيش عقائدي، عبر أكرم الحوراني. ناهيك عن التغييرات الاقتصادية التي حدثت في اقتصاد المستعمرات على حساب الدول الاستعمارية، وتطور عملية المبادلة التجارية وتصدير بعض المحاصيل الزراعية السورية.
بعد أربعة قرون من الاحتلال العثماني لسوريا، والذي وصفه أرنيست رينان بالحقبة التي قُتل فيها العقل، وسانده في ذلك أرنولد توينبي في كتابه المشترك مع فيسكونت بيرسي " طغيان الأتراك القاتل 1917. أو كما وصفه محمد كرد علي في مذكراته، بأن العثمانيون لم يؤسسوا مدرسة ولم يعبدوا طريقا ـ بدأت المدارس تبنى كامتياز لطبقة الولاة ابتداءا من 1884 ـ. وذلك لأن سوريا بالنسبة للعثمانيين، ومن خلال قراءة مذكرات "البديري الحلاق" (1701 ـ 1762) مثلا، لم تكن هذه البلاد سوى مصدرا للتجنيد والجباية والمؤن. ومن حقبة الانحطاط العثماني، انتقلت سوريا إلى الانتداب الفرنسي الذي حرص على إجراء إحصائيات سكانية كثيرة، جميعها، لحسن الحظ، متوفرة في مكتبة الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي، واستحدث بنى مؤسساتية حديثة في مجتمعات مفرطة التجهيل والتفكك.. فتحولت الولايات السورية إلى دويلات عرقية وطائفية، مزدوجة الإدارة، مندوب سامي وحاكم محلي. ومن الانتداب انتقلت سوريا إلى حكم العسكر الذي ظل دون انقطاع حتى اليوم. علما بأن الأكراد السوريين كانوا قادة الانقلابات العسكرية، بدءا بـ حسني الزعيم 1949، وصولا إلى أديب الشيشكلي وفوزي سلو وغيرهم.
حاول الفرنسيون تشكيل دويلة بدوية في البادية السورية، كلفت خزينة الدولة ملايين الفرنكات التي صُرفت كرشاوي لزعماء بعض العشائر. لكنها فشلت بشكل ذريع. كانت البنى الثقافية والمجتمعية متعارضة مع فكرة المؤسسة وماتزال حتى اليوم. مجتمعات تفضل الزعامة والمحسوبية القبلية والمذهبية على التعالي إلى المستوى السياسي لفكرة المواطنة. أذكر هنا مثال الدويلة البدوية في سوريا، لأن تعداد سكان سوريا سنة 1921 كان مليون ومئتين ألف نسمة، وحتى سنة 1929، كان عدد السكان مليون ونصف، ضمنهم أربعمئة ألف بدوي. كان الجهل صلبا ومستعصيا على التمأسس المدني، وعملت الشعارات القومية على حجب هذه الوقائع. مثلما تفعل اليوم.
إن سوريا تعبير جغرافي لشكل سياسي مصطنع وحديث يعود إلى سنة 1939. وتم ترسيم حدودها بداية بقلم رصاص خطه مارك سايكس على خريطة ورقية في الـ 15 ديسمبر1915، خلال اجتماع بمكتب الـ ( Downing Street 10) لرئيس الوزراء البريطاني بلندن. وظلت حدودها متحركة عبر سلسلة الاتفاقات التي كانت فرنسا/ المحتل الجديد، توقعها مع الأتراك/ المحتل السابق، بين عامي 1921 إلى سنة 1939. ولأن فرنسا كانت محتلة من قبل الألمان، وشارل ديغول يوجه خطاباته من لندن إلى النصف الحر من فرنسا وإلى المستعمرات. كان قرار التحكم بتشكيل الحدود السورية العراقية والتركية تحكمها التحالفات العسكرية لإمبراطوريات ما بعد الحرب العالمية الأولى، ضمنها محاولة الفرنسيين لاستمالة الأتراك وحثهم على فك ارتباطهم التاريخي مع النازيين. وهكذا، ورغم بنود المعاهدة الفرنسية السورية سنة 1936، ورغم نتائج الإحصاء الذي نظمته عصبة الأمم في لواء الإسكندرون 1937. منحت فرنسا اللواء لتركيا، وتخلت مع بريطانيا عن القسم الغربي من الإقليم الكردي، والذي بات رسميا جزءا من سوريا. ويوفر الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي، الوثائق التي تظهر التحول في السياسة الفرنسية داخل الإقليم الكردي وكيفية إلحاقه بسوريا.
ذكرَ السياسي الكردي نور الدين ظاظا في مذكراته، أنه سنة 1940، كان يوجد في دمشق فريق كرة قدم اسمه "كردستان" وحصل على بطولة الشام. ومن خلال مراجعة مرافعات مُحامو ظاظا الثلاث: عربي من حلب، وعربي من دمشق، وكردي. يظهر حجم التضامن الأخلاقي لدى العرب حتى سنة 1962 مع الشعب الكردي. بل ولم أعثر خلال عملي على تاريخ الكراهية في سوريا، على أية وثيقة تعود إلى ما قبل 1936، وتحمل الكراهية بين العرب والكرد. بل على النقيض من ذلك، كانت الإصدارات العربية في بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق، تشارك النضال الكردي لتأسيس كردستان على أرضها.
كما أن أول من طالب بتأسيس سوريا كدولة عربية هو المفكر الكردي عبد الرحمن الكواكبي وفقا لنيكولاس فان دام نقلا عن ألبيرت حوراني. وأول من ألغى نظام المحاصصة الإثنية في البرلمان والجيش السوري، هو الرئيس الكردي أديب الشيشكلي. وأول مجمع للغة العربية أسسه محمد كرد علي الكردي المستعرب. غير أن أفكار المواطن العثماني العروبي ساطع الحصري، وما جاء بعده عبر ميشيل عفلق، وزكي الأرسوزي وأكرم الحوراني، الذين استدمجوا حرفيا الأفكار النازية التي وصلتهم عبر كتاب " خطابات إلى الأمة الألمانية " لـ فيخته المترجم من قبل سامي الجندي، وتظهر فقرات منه كنسخة طبق الأصل في كتاب " الجمهورية المثلى" 1965 للأرسوزي. وقيام كل من عفلق والأرسوزي ـ على النقيض من قراءة حازم صاغية لفكر الأرسوزي واعتقاده الخاطئ بأن هذا الأخير كان يستقي نمذجته العقائدية من الجاهلية ـ بتعريب الإسلام وأسلمة العروبة. وبالتالي صارت العقيدة القومية مقدسة، وبناءً عليه، لم يعد هناك خصوم في سوريا، بل تحول كل خصم إلى عدو، أو كما قال أكرم الحوراني في منهاج حزبه" الشباب" سنة 1937، بأن كل من لا يُستعرب سيكون دخيلا على أمته، وهي الفقرة التي سيتبناها دستور حزب البعث سنة 1947.

تغيرت المعادلة الثقافية والوجدانية في سوريا بعد استلام البعثيين للحكم سنة 1963. ومنذ تلك اللحظة إلى اليوم لم تظهر في سوريا ثقافة معارضة للنموذج الشوفيني البعثي. بل تراكمت الشعارات المنادية بتحويل القتلة إلى رموز، كصور صدام حسين وأردوغان المتداخلة بأعلام الجماعات المسلحة السورية التي ارتكبت وفقا لتقرير لجنة التحقيق الأممية المنشور بـ 15 أيلول 2020، جرائم ضد الإنسانية وتطهيرا عرقيا ضد الأكراد في المدن الكردية المحتلة حتى اليوم من قبل تركيا. وقد دأبت التنظيمات السياسية والعسكرية السورية الموالية لتركيا، منذ 10 نوفمبر، إلى تنظيم حملات تحريض وكراهية ممنهجة ضد الكرد في سوريا، شارك فيها متطرفون علمانيون وسلفيون على حد سواء. ترجمتها عمليات قتل المدنيين الكُرد على الهوية في مدينة منبج، وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان.

لم يحدث، في التاريخ السوري القديم ولا الحديث، أن تحولت الشعوب القاطنة في سوريا إلى أمة واحدة. وعبارة "الشعب السوري" لا تحيل إلى أي محتوى سياسي أو ثقافي، بل هي مجرد مجاز جغرافي لجماعات غير قادرة على التفاعل ثقافيا وقيميا لتكون أمة متماسكة. وتعيش منذ 2012، حرب أهلية همجية، وتهجيرا قسريا، واحتلالات إقليمية مبنية على ولاءات طائفية سنية شيعية. وجهل مستفحل في جميع الطبقات الاجتماعية، مع تركة قمعية يكثفها سجن صيدنايا، تمتد إلى أكثر من نصف قرن. وثقافة سياسية عشائرية، ونظام سياسي وثقافي لم يتغير منذ عقود، مع ميل إلى اختزال النظام السابق إلى مجرد بعض الأشخاص وبعض العوائل. وتغيير العصبية المهيمنة والمتطابقة مذهبيا ومناطقيا مع فئة ما، بعصبية مهيمنة ومتطابقة عرقيا ومذهبيا مع فئة أخرى. وبالتالي تغير اسم المُهيمن، مع بقاء النزعة القمعية مستقرة في الهيكل السياسي ذاته.
هذه المطحنة البشرية لن تثمر سوى المزيد من الكراهية. وما يزيد الوضع تعقيدا، هو أن الكراهية كفعل قذر وشرير، تجد في سوريا جماعات تتبناه كشيء مستحب. وتشكل اليوم سلاحا خطيرا بيد تركيا التي تستغل عملائها السوريين، وتوجههم في حرب إبادة معلنة ضد الكرد في سوريا. لن تخرج سوريا من حفرة الكراهية المتجذرة في أحقاد لن يفكها العقل بأي خطاب. ثمة هيام بالشر يخيم على سوريا، تترجمها حفلات القتل المتبادل وسحل الجثث والتمثيل بها على إيقاع الشعارات المتطرفة. يجب الاعتراف بأن هذا البلد محطم، والاعتراف بهول الجهل والحقد الذي سيعطل حتما، المشاريع السياسية المعلقة، فكل المؤشرات تفضي إلى العودة الأزلي للعنف المقدس.