ثمن الحدود التعسفية: تقسيم سوريا والسعي الكردي للاعتراف
Washington Kurdish Institute
العنوان الأصلي للمقال: The Cost of Arbitrary Borders: Syria’s Division and the Kurdish Quest for Recognition
بمجرد أن شنت "هيئة تحرير الشام" (HTS)—وهي جماعة مصنفة كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة—حملتها للإطاحة بالديكتاتورية في دمشق، بدأت تركيا ووكلاؤها السوريون المتشددون حربًا متزامنة ضد الأكراد السوريين. وأسفرت الهجمات، التي نُفذت باستخدام الطائرات المسيرة والمدفعية، عن مقتل عشرات الأشخاص، بمن فيهم النساء والأطفال. في الوقت نفسه، قامت جماعات أخرى مدعومة من تركيا في منطقة عفرين المحتلة بقتل المزيد من المدنيين الذين عادوا إلى بلداتهم بعد تهجيرهم—وهو نمط من العنف الذي تعرض له الأكراد منذ غزو تركيا لعفرين عام 2018.
بعد ما يقرب من شهرين من سقوط دكتاتورية الأسد، تواصل تركيا توظيف الآلاف من وكلائها السوريين وشنّت هجمات إضافية على المناطق الكردية في سوريا، ما أدى إلى معارك عنيفة، خاصة بالقرب من سد تشرين الاستراتيجي. في الوقت ذاته، تدعم الحكومة التركية بنشاط تشكيل حكومة مؤقتة جديدة في دمشق، مقدمة دعمًا واسعًا لهيئة تحرير الشام. ويتم إعداد هذه الجماعة، التي تعتبر حليفًا قديمًا لتركيا ولها روابط بتنظيمي القاعدة وداعش، لضمان عدم منح أي دور أو مكان للأكراد السوريين في الهيكل السياسي الجديد.
النهج الغربي الساذج وأهمية كردستان السورية
تاريخيًا وفي العصر الحديث، اتبعت الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، سياسة ضعيفة ومهادنة تجاه تركيا، باعتبارها "عضوًا في الناتو". واستمرت هذه السياسة عبر إدارات أمريكية مختلفة، حيث تجاهلت إلى حد كبير السياسات التركية المعادية للمصالح الأمريكية، بما في ذلك تعاونها مع خصوم واشنطن واتخاذ إجراءات ضد المصالح الأمريكية في المنطقة، بما في ذلك سوريا. وغالبًا ما جاءت هذه المهادنة على حساب الأكراد في عموم كردستان الكبرى. على سبيل المثال، فضّلت الولايات المتحدة مرارًا تركيا على الأكراد، حتى عندما تعرضوا للاضطهاد والتطهير العرقي في سوريا وتركيا. وبالمثل، في العراق، عارضت الولايات المتحدة استفتاء الاستقلال الذي أجراه أكراد العراق عام 2017، واعتبرته "غير شرعي"، وهو موقف شاركتها فيه تركيا وإيران.
في سوريا، شنت تركيا هجمات على الأكراد وغزت أراضيهم منذ عام 2015، ومع ذلك ظلّت الولايات المتحدة صامتة، باستثناء إصدار بيانات بين الحين والآخر. والجدير بالذكر أنه خلال رئاسة دونالد ترامب، سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها من سوريا، مما منح تركيا فعليًا الضوء الأخضر لغزو مناطق الأكراد. وفي عهد جو بايدن، استمرت الهجمات التركية بالطائرات المسيرة على الأكراد دون توقف.
استغلت تركيا سياسة المهادنة الأمريكية، لا سيما في سوريا، حيث دعت مرارًا إلى انسحاب الولايات المتحدة وعطّلت الحرب ضد داعش عبر استهداف القوات الكردية. في البداية، نشرت الولايات المتحدة قواتها في سوريا عام 2014 بسبب مخاوف جدية من توسع داعش وتهديده المحتمل للولايات المتحدة. وبموجب قوانين مكافحة الإرهاب، أنشأت واشنطن وجودًا رمزيًا وقدمت دعمًا جويًا للقوات الكردية لمحاربة داعش.
بحلول عام 2019، تم تفكيك "الخلافة"، وقُتل عشرات الآلاف من إرهابيي داعش، وأُسر آلاف آخرون. لكن هذا النصر تحقق بتكلفة باهظة، حيث فقدت قوات سوريا الديمقراطية (SDF) بقيادة الأكراد حوالي 12,000 مقاتل. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اختارت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تسليح الأكراد لمحاربة داعش في المقام الأول؟ الجواب واضح: فشلت تركيا في لعب أي دور ذي مغزى في الحرب ضد داعش، بل سمحت لآلاف الإرهابيين الأجانب من أوروبا بعبور حدودها للانضمام إلى التنظيم. كما أن الجهود المبذولة لتسليح ما يسمى بـ"المعارضة السورية" باءت بالفشل، حيث انتهى المطاف بـ500 مليون دولار من المساعدات الأمريكية في أيدي فصائل مرتبطة بالقاعدة. في النهاية، كان الأكراد الشريك الوحيد الممكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، نظرًا لرفضهم التعاون مع نظام الأسد.
حتى بعد سقوط "الخلافة"، واصلت قوات سوريا الديمقراطية الحفاظ على الأمن في شمال وشرق سوريا، رغم العدوان التركي المستمر. وعندما هاجمت تركيا ووكلاؤها السوريون قوات سوريا الديمقراطية، لم يكن رد الولايات المتحدة حازمًا، ما أدى إلى استمرار العدوان التركي دون رادع. إلى جانب تفكيك داعش، تمكنت قوات سوريا الديمقراطية من إحباط العديد من الهجمات الإرهابية على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من خلال الكشف عن خلايا داعش وإحباط عملياتها المخطط لها. وقدمت هذه القوات معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن، كشفت عن هيكل داعش وموارده وعملياته الدولية.
قد تؤدي المواقف الضعيفة المستمرة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه تركيا إلى عواقب وخيمة على أمنهما القومي. فإذا فقد الأكراد أراضيهم لصالح وكلاء تركيا—وهم متشددون إسلاميون مرتبطون بالقاعدة وجماعات مماثلة—فإن ذلك سيؤدي إلى تعزيز الشبكات الإرهابية.
كما أظهرت الدول الغربية سذاجة في مسارعتها إلى إضفاء الشرعية على الحكم الراديكالي الجديد في دمشق. فقد حولت هيئة تحرير الشام أجزاءً من سوريا إلى ملاذ آمن للإرهاب، حيث تؤوي آلاف المتطرفين المشابهين لداعش، مما يوفر بيئة خصبة لهجمات خارجية على المنطقة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. ومن الأخطاء الأخرى الافتراض بأن دعم الحكام الجدد في دمشق والاعتراف بهم سيشجع اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم. هذه السياسة خاطئة من أساسها؛ إذ تسبب نظام هيئة تحرير الشام بالفعل في موجات جديدة من اللاجئين، ومن المرجح أن تصبح سوريا طريقًا جديدًا للهجرة إلى الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشريط الساحلي السوري المطل على البحر المتوسط، الخاضع لسيطرة هيئة تحرير الشام وجماعات راديكالية أخرى، قد يسهل تهريب الإرهابيين إلى أوروبا أو الولايات المتحدة.
يجب على المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، أن يستعد لحرب طويلة ضد الإرهاب في سوريا. لا تزال الجماعات العلمانية، وعلى رأسها الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية (SDF)، الشريك الأكثر موثوقية في هذه المعركة. لذلك، يتعين على الدول الغربية تبني سياسة جديدة تركز على دعم الأكراد السوريين والتخلي عن النهج القديم القائم على مهادنة تركيا. إن إنشاء منطقة كردية سورية تتمتع بالحكم الذاتي من شأنه أن يعزز الاستقرار الذي حققته الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES) ويمنع استغلال المنطقة في المستقبل ضد حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك إسرائيل والدول العربية التي تدعم الأكراد في العراق وسوريا.
لا يمكن التقليل من الأهمية الاستراتيجية للمنطقة الكردية في سوريا. فاستقرارها ضروري للأمن الإقليمي، وحمايتها تمثل ضرورة للمصالح طويلة الأمد للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهما. هناك حاجة إلى تحول حاسم في السياسة لضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة، ولمنع سقوط المنطقة في أيدي العناصر المتطرفة التي تهدد الأمن العالمي.
سوريا: دولة شرق أوسطية معيبة
مثل العديد من الدول المجاورة، تضم سوريا مزيجًا متنوعًا من الجماعات العرقية والدينية والطائفية، بعضها استقر هناك منذ قرون. ومع ذلك، أصبحت سوريا مثالًا بارزًا على العيوب التي صاحبت الحدود التي فرضتها القوى الغربية بعد الحرب العالمية الأولى. وبما أنها تشترك في أوجه تشابه تاريخية وجغرافية مع تركيا والعراق وإيران، فإن حدود سوريا الحالية هي نتيجة تقسيمات اعتباطية رسمتها بريطانيا وفرنسا، وقد دفع سكان هذه الدول ثمن هذه الترتيبات لعقود.
ومن بين الأكثر تضررًا من هذه التقسيمات الأكراد، الذين يسكنون منطقة جغرافية محددة بوضوح لم يكن ينبغي تفتيتها. في المقابل، نادرًا ما يشترك المسلمون العرب السنة والشيعة في المناطق نفسها، حيث يتمتع كل من المذهبين الرئيسيين للإسلام بتوزيع جغرافي متميز. هذه التقسيمات غير العادلة، التي نفذتها القوى الغربية، أدت إلى حروب لا نهاية لها واضطهاد لمجموعات مختلفة. والأمر الأكثر إحباطًا هو استمرار تردد المجتمع الدولي في دعم تقرير المصير الكردي، ما يعني عمليًا التغاضي عن الفظائع التاريخية والمستمرة التي ارتكبت بحقهم.
تشبه سوريا اليوم إلى حد كبير العراق في عام 2003، وهي دولة عانت من سنوات من الديكتاتورية والحكم الوحشي. حاليًا، تنقسم سوريا بين عدة فصائل. فمن ناحية، هناك المتطرفون الراديكاليون مثل القاعدة وفروعها، بما في ذلك هيئة تحرير الشام في دمشق. ومن ناحية أخرى، هناك القوميون المتشددون المدعومون من تركيا، والذين يعملون تحت مظلة ما يسمى بـ"الجيش الوطني السوري". وفي المقابل، هناك الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES) التي يقودها الأكراد، والتي تمثل نموذجًا للعلمانية والمساواة، على غرار حكومة إقليم كردستان في العراق. لقد ناضلت هذه الإدارة بشدة ضد التطرف، وسعت إلى تعزيز نموذج تعددي وشامل لمستقبل سوريا.
إلى جانب هذه الجماعات، هناك فصائل متشددة أخرى مثل داعش، وجيش الإسلام، وأحرار الشام، وفيلق الشام، وجيش النخبة، وجيش الشرقية، مما يزيد من تعقيد المشهد. ورغم أن هذه الفصائل تتسامح حاليًا مع سيطرة هيئة تحرير الشام، فإن تحالفاتها الهشة لن تدوم طويلًا، كما أظهرت تجارب الجماعات الإرهابية السابقة. الجدير بالذكر أن زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، وهو مصنف كإرهابي من قبل الولايات المتحدة، أُزيل مؤخرًا من قائمة المطلوبين مقابل مكافأة قدرها 10 ملايين دولار.
السلام التركي-الكردي
كانت حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شديدة القسوة تجاه السكان الأكراد في تركيا وسوريا. فعلى الرغم من أنه قدم بعض التنازلات الرمزية للغة الكردية في بداية مسيرته السياسية، فإنه سرعان ما تراجع عن هذه الجهود وتبنى سياسات قومية متطرفة فاقت حتى سياسات مصطفى كمال أتاتورك. على سبيل المثال، بعد خسارته في الانتخابات عام 2015، شن أردوغان حربًا مدمرة على المناطق الكردية في تركيا، مما أدى إلى حالة من الفوضى والدمار. كما صعّد من قمعه عبر إقالة العشرات من المسؤولين المنتخبين الأكراد وسجن سياسيين مخضرمين وقادة ناشئين. وبالمثل، شن حربًا ضد الأكراد السوريين، مرتكبًا فظائع وممهدًا لعمليات تطهير عرقي في أماكن مثل عفرين، ولا تزال هجماته بالطائرات المسيرة تحصد أرواح المدنيين حتى اليوم.
في عام 2013، أعلن أردوغان عن عملية سلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK). ومع ذلك، لم تدم هذه العملية طويلًا، حيث غير أردوغان تحالفاته نحو القوميين المتشددين بعد فشله في تأمين دعم الأكراد لطموحاته السياسية. ونتيجة لذلك، لم يكتفِ بالتخلي عن السلام مع الأكراد، بل أطلق عمليات عسكرية ضد المناطق الكردية في العراق وسوريا وتركيا.
لا تزال حكومة أردوغان واحدة من أكثر الأنظمة قمعًا في تعاملها مع الأمة الكردية عبر كردستان، حيث شملت سياساتها مؤخرًا إقالة المزيد من المسؤولين الأكراد المنتخبين في تركيا، إلى جانب استمرار العمليات العسكرية في سوريا. يركز أردوغان بشكل متزايد على تفكيك الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES) ومنع إقامة أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي في سوريا.
مؤخرًا، أطلق أردوغان، إلى جانب حليفه القومي المتشدد دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية (MHP)، جولة جديدة من المبادرات التي توحي بالسعي نحو السلام مع الأكراد. تضمنت هذه المبادرات تسهيل زيارات بين قادة حزب الشعوب الديمقراطي (الذي أصبح يُعرف الآن باسم حزب الشعوب من أجل المساواة والديمقراطية - DEM) والزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان. كما ذهب بهجلي وأردوغان إلى حد اقتراح عمليات سلام جديدة، حيث فاجأ بهجلي الجميع بالدعوة إلى استضافة أوجلان في البرلمان التركي ومنحه العفو.
يبدو أن هذه الخطوة غير المتوقعة من أردوغان مدفوعة بعدة عوامل. فهو يسعى إلى تعديل الدستور لتمديد فترة رئاسته، وهو هدف يتطلب دعم الأكراد. في الوقت نفسه، واجهت تركيا صعوبات في احتواء كل من حزب العمال الكردستاني (PKK) وقوات سوريا الديمقراطية (SDF) في سوريا، حيث تمكن الطرفان من التصدي بفعالية للجيش التركي ووكلائه. كما يخشى أردوغان من أن اللاعبين الإقليميين، مثل إسرائيل، قد يزيدون دعمهم للأكراد مع تزايد الاهتمام الدولي بالقضية الكردية. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد أردوغان أن تحقيق السلام الداخلي سيعزز طموحاته التوسعية الإقليمية ويقوي موقعه كزعيم للعالم العربي الإسلامي.
لكن يبقى السؤال: أي نوع من السلام يمكن أن يقدمه أردوغان للأكراد؟ تكمن المشكلة الأساسية في أن أردوغان لا يستطيع تقديم ما ناضل الأكراد من أجله لأكثر من قرن، وهو الحكم الذاتي، سواء عبر الاستقلال أو الفيدرالية. إن السلام الحقيقي يتطلب الاعتراف بالمنطقة الكردية في تركيا، والمعروفة باسم كردستان، مع ضمان حقوق كاملة في الدستور. وهذا يشمل سن قوانين تضمن الإدارة الذاتية الكردية، بما في ذلك قوات أمن تحت القيادة الكردية. كما يتطلب الإفراج عن جميع السجناء السياسيين ومنح العفو القانوني للقادة الأكراد. ينبغي أيضًا الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية في تركيا، إلى جانب وضع حد لسياسات الاستيعاب القسري وسن قوانين لمكافحة جرائم الكراهية ضد الأكراد. علاوة على ذلك، يجب تقديم تعويضات لضحايا الفظائع السابقة، بما في ذلك العائلات المتضررة من العنف السياسي.
ورغم أن السلام سيعود بفوائد كبيرة على الأكراد، إلا أن تركيا ستكون المستفيد الأكبر. فالتوصل إلى حل سلمي سيمكن تركيا من بناء تحالفات قوية عبر المناطق الكردية الممتدة من غرب إيران وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو ما قد يعزز نفوذها الجيوسياسي بشكل كبير.
لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل أردوغان وبهجلي هما القادة المناسبون لإنجاز مثل هذا الاتفاق؟ إن تاريخهما الحافل بالقومية المتطرفة والسياسات المعادية للأكراد يلقي بظلال من الشك على قدرتهما على تحقيق سلام حقيقي. ومن دون جهود جوهرية وصادقة، فإن مبادراتهما للسلام قد يُنظر إليها على أنها مجرد مناورات سياسية بدلاً من التزام حقيقي بحل القضية الكردية.
التاريخ مليء بأمثلة مماثلة، مثل "إعلان 11 آذار" الذي وقعه صدام حسين مع الأكراد في العراق، والذي بدا وكأنه اتفاق سلام لكنه أعقبه حملات تطهير عرقي ضد الأكراد العراقيين، مما يبرز المخاطر المحتملة للمفاوضات غير الصادقة.