مشكلة التسامح

مشكلة التسامح
العمل الفني للفنان الكندي Timothy Schmalz بتصرف

د. سامي عبد العال

هل يمكن أن نفكر في قضايا التسامح (حدود المفاهيم/الأفعال) بشكل معكوس، داخل وضع فكري مقبول وسيظل مقبولاً؟! بمعنى أننا عادة ما ننظر إلى الأشياء المتعلقةِ به من خلال رؤيةٍ معينةٍ, أي نراها من خلال المنظور (الفلسفي، الأيديولوجي، الديني، المعرفي،...)، الذي نطل منه فكرياً, ونخطط إلى غير المؤطر فيه، عبر إطارٍ ثقافي واجتماعي حيث نقف, ونحدد خريطة المشكلات بواسطة ما تمَّ تحديده, ونفهم غير المفهوم بناءً على الواضحِ, ونستجلي الغامضَ في ضوء البينِ.
قد ُيقال ـ هاهنا ـ إن أمراً كهذا محتوم، نظراً لأن الإنسانَ لا يستطيع الخروج من ذاتهِ، التي هي الأفكار، والمقولات، والمعارف، والأحداث، بل يستحيل أن ينفصل عما رُسِخّ لديه من مرجعيات، قَبِل أم رَفَض، وقد يُشار إلى أنه لو حدث عكس ذلك، لكان موضوعاً خيالياً، يغرق في التوهم أكثر مما يستند إلى واقعٍ وتاريخٍ، ولن يتحقق في رؤيةٍ واضحةٍ، على ما يعنى الوضوح أحكاماً بعينها، خاصةً أن قضايا التسامح مرتبطة بهذا التاريخ الثقافي أو الاجتماعي، وتبقى متعلقة بهذا التحديد أو ذاك، وأحياناً يُنوّه إلى أن تتبع اللاتحديد في أفعال التسامح لون من التعلةِِ، لهدم النتائج التي تسفر عنه، وقلب الحقائق التاريخية التي تحتويه، بيد أن الخطوة المبدئية: ِلمَ لا نجرب الوقوف في مواقع أخرى؟!.
إن التقيد بما نعرفه إزاء التسامح يؤدي ـ افتراضاً ـ إلى درجة من درجات التقيد بتصورات مسبقةٍ، ولاسيما في المجتمعات التقليديةِ، وفي تجاربه غير الناضجةِ, وقد يُعطى انطباعاً قوياً بالتماثل، على الرغم من وجود تباعد واختلاف في الإمكانيات، ما بين وضعٍ ووضعٍ آخر, ولربما يُحَدِد الجانبين على أساس ثنائي (هذا أو ذاك) تحت غطاء التناقض، واحتمال أن ُيحدِث استقطاباً، ُيلغى المستويات الثرية التي نفكر فيها, استقطاب تجاه المحدد، والواضح، والبين بالطبع. وفى الأغلب يحتمل هذا الفهم تكراراً لما سبق تحديده في التسامح أمام حالات اللاتحديد الجديدة, كما يفترض أن هناك انتظاماً قائماً على فكرة فحواها: طالما أن حالة اللاتحديد (اللاتعين) uncertanity بما هي كذلك غير معروفة داخله, فإن حالات التحديد السابقة تفيدنا في تشكيلها, وأن الانتظام، وفق هذا التحديد أو ذاك، يمنحنا نموذجاً مَقِيسّاً عليه (وزاناً), بمثابة نموذج قابل للتطبيق في كل المجتمعات مجدداً.
علَّ هذا الوضع ُيقلص تباعاً مساحة المجهول الإنساني, مجهول القضايا، بينما هو من الأهمية بمكانٍ، إذ يعطينا حريةً للتحرك، ويساعدنا على إعادةِ الاعتبار لما هو غير قابل للتشكيل إلا وفق قوانينه الخاصة, التي لا نعلم عنها شيئاً في هذه اللحظة, اللحظة الغارقون فيها, وأمام القضايا الفلسفية (كمشكلة التسامح) نغرق في لحظة تقف على دلالات اجتماعية وثقافية وأخلاقية وفكرية ودينية..., لا نعطيها الاهتمام الذي يتطلع إلى ما خلفها، كي نحاول رؤية ما فيها من مجهول, لدرجة أنه في معظم الكتابات ُينظر إلى التسامح كقضية محض اجتماعية، أو أخلاقية، أو دينية, وأن الإيمان بالمحدد فيها يُسّرِع بضرورة إلحاقها بدلالةٍ مؤكدةٍ, وأن المحكوم فيها ُيعجل بإصدار الأحكام القيمية، أو التصنيفية، مع أنها قضية تحتمل قراءةً أخرى, هي دوماً تتلقى قراءات مغايرة، بحكم أن التسامح يكتسب أبعاداً في السياق الذي يوجد فيه، إن غض الطرف عن تلك الوجهة من النظر لا تجعلنا نرى إخفاق مشروعات التسامح المزمعة قبل أن تبدأ.
إذا استبقت التفكير بصدد مشكلة التسامح, لأشرت إلى أن مساحة اللاتحديد, المجهول فيه, توفر لنا الفرصةَ لمناقشة طابعه الفلسفي من عدمهِ، ولماذا يتعدد في دلالاته؟ وماهية الأوجه الغائبة له؟ ولماذا يُحَمّل بأفكارٍ أخرى حسب السياقات؟ وهل يمكن أن نفهم إمكانية التسامح كمصطلح، وما هي حدوده؟ وهل نضع فلسفته ومفاهيمه بين أقواس؟ وهل يمكن ـ ابتداءً ـ قيام فلسفة للتسامح أم لا؟
قبل توضيح الأبعاد الإشكالية الكامنة وراء تلك الأسئلة، ولإلقاء الضوء على المواقع التي نحاول كتابتها في التسامح, يمكن التأكيد على:
(1) أن التركيز على تلك المواقع غير المحددة لا يعنى إدراجها كطرف في ثنائية مكونة من: المحدد وغير المحدد, المعلوم والمجهول, فهذا إن حدث فهو محض قلب للأوضاع التي أشرت إليها سلفاً، ويمثل ارتداداً نكوصياً في الفهم، وهذا ما سأناقشه أمام ثنائية: التسامح/اللاتسامح.
(2) المهمة الأولى للتفكير في التسامح بالتوصيف السابق هي كشف المضامين التي توجد داخله، ومع ذلك لم تُقَلّ بوضوح، والتي تمثل استحالةً في سياقها، إذا تناولناه كفعل مبذول بشكل ساذج(معطى).
(3) معرفة الخطوط المذكورة في بعض الأفكار والفلسفات والتنظيرات التي تعالج التسامح, ولم يتم التوقف لديها, وهى الخطوط الأخرى، التي من المتوقع أن يأتي منها شيء مغاير لما هو سائد، إنها الأوجه غير الواضحة، والتي لم يتلق التأمل فيها عنايةً.
(4) التفكير بهذا الشكل المعكوس هو انتقال من موقع إلى آخر دون تثبيت الأفكار, ومن غير جاهزية المعطى (نصوص ـ مذاهب ـ أفعال...), لأن التسامح ينطوي على مواقع، منها ما هو ثابت، ومنها ما هو متغير، ومنها ما يعد مشروطاً، وما ليس مفهوماً إلا إذا أخذنا بطرفيه، و هما طرفان لا يكفان عن تبادل الحركة, ذلك حسب النمط الفكري الذي يوجه بوصلته، من جهة إطاره المرجعي (الدين, الحق, المجتمع, الأخلاق, الفكر, الإنسان...) أو تحت مسمى "حدود التسامح".
(5) الاعتناء بتوزيع هذه المساحات غير المحددة في المفاهيم, أي جعلها متماهيةً مع ما هو مقنن منها، ودفعها للوقوف إزاء اعتبارها موضوعاً قيد الاشتراط, اشتراط ديني أو أخلاقي أو قانوني، ويمكن افتراض عدم مشروطيتها أصلاً، بكلمات أخرى: ماذا لو حاولنا مساءلة تلك الشروط، بدون إعطائها الفرصة لتوجيهنا واشتراطنا الاستباقي، كما لو دفعت لنا القولَ إن أردتم للتسامح أن يحدث ينبغي أن تقبلوا بتلك الشروط مسبقاً.
نتيجة لذلك, تتعين أهمية "التسامح" من الموضع الذي لا يتعين فيه, إذ ذاك يخضع لعمليات تحول تحت أشكال عديدة من التجريد، بذات القدر الذي يمارس سلطةً ليست أصيلةً فيه, إنما يعبر عنها, فينتهي فيه ما هو منه، ويمتد إلى ما ليس فيه، إذ يرتد إليه، و يبقى فاعلاً في مستوياته وأنماطه. كما أنه، أي التسامح، يظل في تلك المرحلة قابلاً لأن يُفَرِغ مضامينه في مفاهيم وكلمات, هي في الأعم تأخذ احتمالاته، وترتهن بالمرجعية التي يستند إليها صراحةً أو ضمناً, لذلك فإن الصراع والتوافق اللذين تحملهما"كلمة" التسامح، دلالة وممارسة، يراهنان في الحالين على الاستحواذ على هذه المنطقة غير البادية للعيان, وغير القابلة للمعرفة بسهولة، أي "المنطقة العمياء" جرياً مع مصطلح "بول دي مان".
هي منطقة بما هي كذلك, لا بالجانب الأحادي, إنما يمكن لها أن تقبل وجوهاً، وأن تكتب داخلها مدلولات مجتمعة أو متفرقة, مدلولات تتنازع فكرة التسامح وممارسته, وتحاول احتواءه, يأتي أقرب توضيح إلى ذلك لو حاولنا تفريد المدلولات ـ المعطيات المتعددة، حول كلمة التسامح هكذا:


حضاري مؤسساتي عولمي
قانوني أخلاقي
منطقي قيمي
لغوى سيكولوجي
اجتماعي التسامح إنساني
مفهومي تعليمي
ديني سياسي
حقوقي
ثقافي براجماتي
تاريخي ميتافيزيقي

السؤال المترتب على ذلك: هل يمكن لكلمة التسامح أن تستوعب تلك المعطيات؟ وهذا يحيل إلى سؤال آخر، بأية صيغة يتولد هذا الاستيعاب؟ في الحقيقة لا تدور تلك المدلولات خارجياً حول التسامح, لكنها تأخذ مشروعيتها من داخله, وبكامل التفاصيل التي قد توجد, بحيث لو قرأنا مدلولاً، لوجدنا فكرته قد استغرقت فكرة التسامح, وكأنه مدلول وحيد له, إنه في هذا الوضع يستلزم آلية الاستقطاب التي أشرت إليها، لتظهرـ في هذا الضوء ـ مصطلحات مبنية على استيعاب وحيد الاتجاه, على سبيل المثال: "التسامح الديني", "التسامح الاجتماعي", "التسامح المعرفي", "التسامح السياسي", "التسامح الثقافي", "التسامح الاثني", "التسامح الجنسي", "التسامح القومي", "التسامح الأخلاقي", "التسامح الحضاري"...
ومع أن أياً منها له أبعاده وأفكاره، إلا أن هذا المدلول أو ذاك للمصطلح يتجلى كشكل للهيمنة, يأخذ أغلب المدلولات الأخرى في طريقهِ, بحيث يُرسِخ مرجعيةً بعينها، سياسيةً أو قانونيةً أو اجتماعيةً..., وكم رأينا تمشياً مع منطلقات التسامح وتبعاً للتصوراتِ المرسومةِ أنه على بعد خطوات من فشلهِ. إن ما يحدث عبارة عن امتلاءٍ لكل الفراغات المتوقعة في مضامينه, هو امتلاء بحجم التوقع نفسه, وما يمكن أن يجرى تخريجه من مفاهيم واحتمالات, إذ يوجد في كل تلك الأوجه السالفة، هذا الشيء الذي يحدد المرجعية والشروط المعلنة التي ينبغي الالتزام بها على نحو يخالف التسامح نفسه, ثم يتقرر مستوى الالتزام ظاهرياً ودرجته المرتفعة، والتي لا تنخفض، كما لو أن الضروري يحتم غير الضروري, وأن اللاتسامح, أي العنف, الاشتراط الحتمي, المعلن، أشياء تحدد ماهية التسامح, وهى في الحقيقة ماهية تلك المنطقة (الفضاء/الخلفية) العمياء، وبفعل أن تلك الأشياء موجودة في الوجه غير المنظور له, يتم الانصراف فلسفياً إلى تحديدات عامة حوله, كشيء من الأشياء, كموضوع متاح للنظر والتقليب والرؤية من قبل العيان المباشر، وفوق ذلك يجري الانفصال عنه, كما فعل "جون لوك" في رسالته. كأن التسامح المنظور إليه عن بعد, هو ـ في تلك اللحظة ـ شيء يقع بمنأى عنا, يمكن أن نحضره أو نذهبه, نقلصه أو نوسع من دائرته, كأنه يُحَلِق حولنا, نحن في الداخل منه, لا خلاص له منا, ألم نمنحه للآخرين؟ ألا نعطيه حقيقته؟ أنحن الذين نقرر أم هو... أم اللاتسامح؟ تلك الاستفهامات غائبة لا يُجاب عنها, لأنها تخضع لعملية تبديل بأسئلة أخرى، ترتبط بموضّعةِ التسامح كممارسة ودعوة ونداء وكبطاقة هوية لمعطى اجتماعي أوديني يأخذ باليسار ما يمنحه باليمين، لكن أين المعطى الفلسفي؟ إنه دوماً يدير في تلك المنطقة العمياء هذه الهُويّة, إنه "هُويّة الهُويّة" التي بناء عليها يتم التسامح, أي أننا نتسامح، لأننا أصحاب هُويّة لها جذور كذا وكذا بلون من العلو، الذي ينزل تواضعاً ليُحَط على الآخرين، وقد يؤشر إلى مضامين إنسانية، وقد تكون أخلاقية أو حقوقية أو اجتماعية, سوى أنه في الأخير يبقى كامناً هناك, فإذا أتينا به, فإنه يحرك ما يظهر من التسامح اعتماداً على المفاهيم التي تأخذ مبرراتها من هذا البعد, البعد الذي ُيطرح بإلحاحٍ، فهل يعد التسامح كمفهومٍ, كفكرةٍ صالحاً بهذه الوضعيةِ أيا كانت؟ أو ما مدى صلاحية هذا المفهوم له, إن وجد؟.
أما الذي يمكن توضيحه هنا: أن تلك "المنطقة العمياء" لا تنفصل بحال عن فعل التسامح, هي تتحقق فيه على التوالي ودون مبارحةٍ, لأنها المجال الفعلي لحسم الصراع مع الآخر (موضوع التسامح) وإحتوائه, وحتى عندما يتم موضّعِة الآخر, أي عندما تتعين هوية الآخرين, فهم لا يتعينون إلا في تلك المنطقة، ولا يختفون سوى فيها بالمثل, أو بالأدق يتعرضون فيها للإخفاء من قِبَلِنا نحن. ومع عدم انفصال تلك المنطقة عن "التسامح", فإنها تظل مائعة الهوية, بلا إمكانية إلا من إمكانية التسامح ذاته وشروطه, وهى قيد الاكتشاف, لعدة أسباب:
1 ـ أن التسامح(كمبادئ، وأفكار، ومعطيات) لا يوفر لها مساحة للاتساع، بفضل أنه يَتَأرّخ مسبقاً، كما تشترطه المرجعيةُ الغالبةُ في المجتمع.
2 ـ أنها مجرد تكملةٍ مهملةٍ, عن طريقها يمكن للتسامح كمفاهيم أن يعدل من وجودها واحتمالات طرحها.
3 ـ بعيد عن الاهتمام أن تظهر, أو بالأحرى أن تُطرّح كاختلافٍ، وإلا لأدّت إلى انهيار التسامح نفسه, ومع ذلك هي بهذا المعنى قائمة.
4 ـ بحكم فعل التسامح وماهيته، فإنه يبقى منطوياً على تلك "المنطقة العمياء", هو محتوم بها, ومرهون بموجبها, لذلك فإن خطر الانقلاب إلى ضده خطر حقيقي, بل منصوص عليه هنا أو هناك, في تضاعيفه وندائه، اللذين يتتابعان داخل الأنظمة السياسية أو الاجتماعية.
5 ـ ما إن يخضع التسامح لأطره ومرجعيته، حتى تغدو تلك المنطقة فاعلةً, هي تتسع بخلاف ما يُراد لها أن تضيق, تخرج عن السيطرة، مع أن المنشود هو التحكم فيها, هي بدء التسامح، علة انطلاقه، وكذلك يبدو أنه مجال لتحققها من جهة أخرى, وهو فرصة سانحة للإعلان عن وجودها المتجدد, وعن إرجاعه إلى نقطة البداية التي قد تكون نقطة النهاية.
من جانبٍ كهذا، فإن قراءتي لمشكلة التسامح عبارة عن تتبع بعض الخلفيات التي يمكن أن نجدها في فلسفات واتجاهات التسامح، وصولاً إليه إن أمكن, إنه تتبع ينطوي على إعادة النظر في إمكانيات تلك "المنطقة العمياء" اللصيقة به, مع محاولة استخراج المعطيات الغائبة داخلها, لكن كيف يتم التوصل إلى ذلك؟ إن هناك شيئاً ملحوظاً في اتجاهات ومذاهب التسامح: هذا التنوع الذي يكاد يختلف في أسسه ومبادئه بين اتجاه وآخر, مما يعنى أن قضاياه ومفاهيمه، حين تنتقل من هذا الاتجاه إلى ذاك ـ وبخاصة على صعيد المفاهيم الفلسفية المقررة ضمنياً له ـ تطرأ عليها تغيرات, هي تغيرات غير بعيدة عن كشف طبيعة التسامح وحقيقة الوضع الفلسفي له، تعلقاً بتلك الاتجاهات, بل الأهم أنه يورط تلك الفلسفات والاتجاهات فيما نأت بنفسها عنه ودفعته ليحل محلها, يتساوى في هذا مفهوم التسامح مع أية فكرة أو وحدة تعبيرية مادامت موجودة في نص أو حياة إنسانية، لهذا فإن أية تجربة للتسامح تحمل بذور نقيضها، وقد تنمو بسبب احتمالاته، وتتغذى على وجوده.
وليس ببعيد أن يأتي سؤال كهذا: هل هناك حدود للتسامح؟ إذ حاولت أغلب الاتجاهات والفلسفات تقديم إجابةٍ عليه "جون لوك"، "ستيوارت مل", "كانط", "كارل بوبر", "جون رولز", إجابات متباينة, غير أنها تدفع التحليلات والقضايا المتعلقة بتلك الإجابة إلى الإعلان عن أشياء أخرى, أشياء مرتبطة بطريقة التسامح ذاته، وماهيته، والملابسات التي تحيط به، وكيف يؤدي دوره فلسفياً؟ مما يعطى القارئ مبرراً، لكي يقترح بدوره استفهامات خاصة بحقيقة التسامح، وما إذا كانت مفاهيمه على المستوى الفلسفي متماسكة أم لا؟ وما العلة من وراء أن الحدود المعطاة للتسامح تأخذ في الارتداد رويداً، حتى تغدو حدوداً لإمكانيته وفاعليته؟
عادة ما يحدث تحول لمفاهيم التسامح, فما دامت تلك المفاهيم ليست فلسفية خالصة، حين يقال مثلاً: هي اجتماعية أو أخلاقية, فإنها تكتسب دلالات جديدة أو هكذا تُمارِس وجودها فلسفياً, بحسب المجال المطروحة فيه, فلو كان مجالاً أخلاقياً, فإنها تعيد تأسيس نفسها في ضوء الأبعاد الأخلاقية والقيمية, تلك الأبعاد المرتبطة بالآخر والإنسان والحياة والمثال الأخلاقي, أو ما يمكن أن يُضيف حقيقةً، تُقام عليها الاختلافات، كما فعل "كانط" بمناقشة السلام الدائم وأفكاره الأخلاقية، على خلفية (حقيقة) التصور الترانسندنتالي للقانون العام. كأن القانون العام سيحل المشكلات الجزئية, وسيقرر ما لم يتقرر مبدئياً, حيث يلتقي انتهاءً تحت مبدأ الخضوع لسلطته, وهي في الحقيقة ليست سلطته، ولن تكون، و كأنه بمجرد الاتفاق حول بعض المبادئ ينتهي الصراع (الحرب)، وينفتح المجال للسلام "الدائم"، كما سأناقش هذا الأمر لاحقاً. لعلّنا نلاحظ هذا التحول من المستوى السياسي ـ الاجتماعي إلى القانوني مروراً بالفلسفي, إن الفلسفي يبرر, يعطى, يفوض ذاته، لكي يحرر ما هو عام وشامل، وفى هذه الوظيفة الكانطيةِ للتصور الترانسندنتالى، يجرى تطهير المفاهيم التي ليست فلسفية، كي تصبح كذلك, فكأنما هي مهمة سهلة، وغير معرضة للإخفاق, بينما هي من أعقد الأمور وأكثرها خطورة، التي يمكن أن تخوضها المفاهيم، ما بين اتساع لدلالاتها، وتنقية لمتعلقاتها الفعلية, أي تصفية لما يمكن إجراء التسامح حياله، وبين ارتداد الصراع في أشكال أخرى, فهو في تلك الحالة عبارة عن تسامح صوري, ترانسندنتالى بالتوازي.
من جهة أخرى، قد يكون هناك تبادل مفاهيمي يقوم عليه التسامح من خلال مسألة: من يستحق التسامح؟ وهل يمكن بذل التسامح مع فئة أو طائفة ـ كما عند "لوك" و"بوبر" ـ تحت شروط؟ أو هل نتسامح مع طائفةٍ دون أخرى؟ إن هذه المسألة تقتضى نمذجةً (وضع نموذج) للتسامح على مثالٍ سابقٍ, نحن الذين نخططه, نعينه, نرسم له آفاقه التي لا يبرحها, فالتسامح ـ بمعنى التبادل ـ يكون شرطه التسامح, موقف متسامح بموقف آخر كمقابل له، مما يستدعى سؤالاً: ِلمَ التسامح أصلاً، طالما أن هناك تسامحين يتبادلان المواقع والمقايضة؟ هل المسألة التقاء التسامحين فقط؟ وهذا يعنى في النهاية إمكانية تبادل المفاهيم بصورة عنيفة, فالمفهوم لا يُمنح هكذا، إنما يُستعطى, بكلمات أكثر وضوحاً أعطى "لوك" مفهوماً مرتبطاً بدلالات دينية للتسامح، في مقابل مفاهيم مَدنِيّة، يبذلها هؤلاء الذين يريدون التنعم بنعمة التسامح, فيبدو التسامح كعطيةٍ, هدية قابلة للرد والاختزال والتلاشي, فكيف يتماثل الديني والمدني؟! وفى مقابل احترام النظام الديمقراطي، يشترط "كارل بوبر" الاستمرار في التسامح، وهو هنا شرط يسبق المشروط ويقلصه، إن لم يلتهمه.
هو يقول شيئاً بالتبادل مع شيء آخر, غير أن هذا الشيء المتبادل يلاءم الوضع القائم فيما يبدو, مطلوب منه أن يكون قياسياً, إنه مُعدّ في ضوء النموذج المقرر, نموذج التسامح, عندئذ يمثل النموذج بعداً من أبعاد الضرورة التي تحتم بقوته الضمنية، أو بالأحرى تقهر السلوكيات والأفعال (الاجتماعية، والسياسية والأخلاقية...) على نحوٍ هو يتبناه سلفاً. لكن هل هذا تسامح تبادلي أم ماذا؟! وهل يحقق فكرة التسامح؟ إضافة إلى ذلك, توجد هناك إحالة reference لموضوعات التسامح تجاه قيم ثقافية وأخلاقية وسياسية, بذلك تتورط هذه القيم بين القائم بالتسامح والمستقبل له, هما مرهونان بتلك القيم، ولا يفعلان أكثر من التواطؤ لإنجازه, وفعل التسامح يقوم بعملية مهادنةٍ, تمهيد, موائمة, إقناع بالخضوع لما يتجاوزه ويتمثل خلاله في عملية إحلال دلالة في موضع دلالة أخرى. وهى عملية تضع الكلى، غير المحدود والعام محل الجزئي والعيني والنسبي, طالما أن هناك أفقاً مطلقاً يتحقق ويأخذ في تكرار نفسه عبر هذه الاستبدالات.
على هذا المنوال كانت هناك مناقشات لأهمية التسامح في ضوء قيم إنسانية كالحرية والحوار والتعايش, قيم موضوعة على أنها حيادية وشفافة, بيد أنها كانت قيد الاحتواء من قبل سلطةٍ قاهرةٍ, ليغدو فعل التسامح فعلاً متعدياً, إذ يتجاوز موضوعه، ويحاول إخضاعه للتكرار بالاستناد (بالرجوع) إلى تلك السلطةٍ، المهم: كيف نفهم هذه التحولات والإحالات والمقايضات؟ أهي خواص ملازمة لفعل التسامح؟ أم ماذا يوجد هنالك(من أفعال للتسامح)، حتى تمرر خلال ذاتها هذه العمليات؟
مبدئياً تكمن مقاربة الأسئلة ضمن الجانب غير القابل للسيطرة في تلك الأفعال, لأنه الجانب الذي يحتوى معالم تقريبية, وهى كذلك لاعتبارات خاصة بتكوينها وآليات عملها في كل فعل تسامحي, فلم يكن الفعل ممكناً إلا تحت قدرتها على الانتقال به, وإلا فلينجر مع إمكانيتها على استيعابه ودفعه هنا أو هناك. إن فعل التسامح غير منطبق على ذاته, ولا يتسنى له ذلك, بمقدار ما هو على مبعدة دائماً من موضوعه, بحكم أشياء كثيرة متعلقة بمنطلقاته، واسناداته، وبنيته, تلك الأشياء التي لابد أن تملأ فراغ الفعل, فراغ الشيء غير القابل للسيطرة داخله, لذلك لابد من تكراره، حتى يصبح حاضراً ومؤثراً، لكن من أين يأتيه الحضور المتكرر؟!
إنه يحتاج إلى فضاء (فكري أو اجتماعي...) يحتمله, يتسع له, ويتيح له أن يستمر, فهل هناك تسامح متقطع دون أن يتكرر، كأنه يجرى لأول مرة؟ بالطبع ينبغي له أن يترجم ذاته إلى فعل آخر ملاصق، أو مجاور، أو متباعد, وإلى أفق يحتويه ويبرر وجوده, وإلا ما كان له أن يُمسِى تسامحاً. على أنه يحتاج أيضاً ـ كما سنرى ـ إلى أن لا يُمسِى كذلك (أي لا يُمسِى تسامحاً بذات الدرجة), هذا من أجل أن يرسم حدوده و يُموضِع نفسه، كي يناله الآخر، وحتى يصل إليه في الوقت ذاته، وليتسق مع مقدماته، ولكي يفرض شروطه و يخبرنا بحدوده. من هنا يتحدد احتياجه بالمثل إلى ما يجعله ممتنعاً علي التحقق، إذا كان جارياً بشكل مطابق لذاته, أي يحتاج إلى ما هو غير قابل للتسامح, إلى ما يعد غريباً عنه، بمعنى أن التسامح مطلوب افتراضاً لأن هنالك عدم تسامح، حيث المبهم وغير المحدد، إذ يعطيه "غير المحدد" مفترق طرق لممارسة وجوده، على نحو يوائم بين الإلزام الواجب والقبول بأشياء غير مكافئة بل مضادة لفعلهِ, وإلا لماذا يخفق رغم ضمانات نجاحه؟! فالتسامح ازدواج متواصل بين التزام وإلزام بصيغة القبول, كما لو كان طوعياً، وهو ليس كذلك، علي الأقل من جهة مرجعيته الحاكمة الممتدة إلي الفعل.