الفاشية في فكر ستيرنهيل و جورج موس

الفاشية  في فكر ستيرنهيل و جورج موس

ميشيل مان
إعداد: آسو دراسات

لا شك أنّه من الواجب تحديد المصطلحات التي نستخدمها، على الرغم من أنَّ مثل هذا الأمر ليس بالأمر اليسير. وكان بعض الباحثين قد رفضوا رفضاً مطلقاً تعريف الفاشية بأيّ معنىً جامع، وذلك لاعتقادهم أنَّ الفاشية "الحقيقية" لم توجد إلا في إيطاليا، موطنها الأصلي. غير أنني وكثيرين، نخالف هذا الرأي. وإن كنتُ لا أبحث عن تعريف جامعٍ يمكن أن ينطبق في كلّ مكان وزمان، بل أبحث وحسب عن تعريف يمكن استخدامه في مرحلة ما بين الحربين في أوروبا، وذلك وصولاً إلى آخر فصلٍ من فصول كتابي هذا، حيث أطرح السؤال عمّا إذا كانت الحركات الفاشية قد وجدت في أمكنةٍ أخرى وأزمنةٍ لاحقة.
دعونا نبدأ بتلمّس نوعٍ من المعنى العام للفاشية من خلال آراء مفكريها البارزين، وتعليقات ستيرنهيل (1976، 1968، 1994) وموس (1999)، وما جمعه غريفن من نصوصٍ فاشية (1995). لقد كان معظم مفكري الفاشية في البداية يساريين غير ماديين اعتنقوا لاحقاً فكرة القومية العضوية. وكان الفرنسي باري في العام 1898 قد أطلق على هذا الالتحام بين الطرفين اسم "القومية الاشتراكية"، إلا أنَّ القلب الذي أجراه الإيطالي كورّاديني على هذه العبارة، بحيث باتت "الاشتراكية القومية"، هو الذي شاع استخدامه، على الرغم من أنه لم يكن يعني بالاشتراكية ما يتعدّى النقابية:"النقابية والقومية معاً، هذان هما المذهبان اللذان يمثلان التضامن". فالصراع الطبقي والطائفي يمكن أن يسوّى بمساعدة الحركات النقابية (اتحادات العمال) التي تنسّق عملها "دولة جامعة". وهكذا تكون الاشتراكية القومية محصورة ضمن حدودٍ قومية، في حين يتمّ تحويل الصراع الطبقي إلى صراع بين الأمم. ذلك أنَّ "الأمم البرجوازية" (مثل بريطانيا وفرنسا) تستغلّ "الأمم البروليتارية" (مثل إيطاليا). ولكي تقاوم الأمم البروليتارية هذا الاستغلال عليها أن تقاتل، بأسلحةٍ اقتصادية ومن خلال "رسالة الإمبيالية المقدّسة". وفيما خلا العبارة الأخيرة، فإنَّ هذا الكلام يشبه "اشتراكية العالم الثالث" التي شهدتها السنوات اللاحقة. فمثل هذه الأفكار كانت شائعة في القرن العشرين.ومما راح هؤلاء اليساريين غير المادين يسبّحون بحمده أيضاً "المقاومة"، و"الإرادة"، و"الحركة"، و"الفعل الجماعي"، و"الجماهير"، وديالكتيك "التقدّم" عبر "الصراع"، و"القوة"، و"العنف". وهذه القيم النيتشوية جعلت الفاشية "راديكالية". وقد عزم الفاشيون على أن يتغلبوا على كلّ معارضة، من خلال الإرادة والقوة مهما كلّف الأمر، دون لجوء إلى التسويات ودون أي وازعٍ من ضمير. وما عناه ذلك عملياً هو تشكيل الميليشيات والأحزاب. وبوصفهم من دعاة الجماعية فقد نفروا من "الفردانية اللاأخلاقية" في ليبرالية السوق الحرة و"الديمقراطية البرجوازية"، اللتين تجاهلتا مصالح "المجتمعات الحيّة" و"الأمة بوصفها كلاً عضوياً". فالأمة في جوهرها واحدة لا تقبل الانقسام، وكيانٌ حيّ يتنفّس، يُعَرَّف إما بأنه كلّ "لا يتجزأ" أو بأنّه كلٌّ "عضوي". فأن تكون ألمانياً، أو إيطالياً، أو فرنسياً يعني - كما يؤكّد الفاشيون – ما يتعدّى مجرّد العيش في مكان جغرافي؛ يعني شيئاً لا يمكن للخارجيين أن يعيشوه أو يختبروه، وينطوي على هويةٍ أساسية وعلى انفعالات لا يطالها العقل. وكما يؤكّد موس، فإنَّ الأمة الألمانية تختلف عن الأمة في جنوب أوروبا، لأنها عرقية فضلاً عن كونها ثقافية. وهي تعتمد على الداروينية الاجتماعية، ومعاداة السامية، وغيرها من النظريات العنصرية التي عرفها القرن التاسع عشر كيما تصوغ شعباً، أو وحدةً إثنية ثقافيةً واحدةً تتعالى على كلّ صراعٍ ممكنٍ في داخلها، لكنها تقيم حدوداً عاليةً بينها وبين جميع الشعوب الأخرى.غير أنَّ ذلك كله لا يذهب بما للأمة من بنية أخلاقية وعقلانية أيضاً. وقد رأى منظّرو الفاشية، اعتماداً على روسو ودوركهايم، أنَّ المؤسسات المتنافسة مثل الأسواق، أو الأحزاب، أو الانتخابات، أو الطبقات لا يمكن أن تولّد أخلاقاً. فهذه الأخيرة ينبغي أن تأتي من الجماعة، من الأمة. ولقد حمل الفرنسي بيرث على الليبرالية، قائلاً إنها تصل "بالمجتمع إلى الحدّ الذي يغدو فيه مجرّد سوق مؤلَّف من ذرّات تقوم على التجارة الحرة، وينحلّ بالتواصل معها كلّ شيء.... ومؤلَّف من أفراد هم أشبه بذرات من الغبار، مُغْلق عليهم ضمن الحدود الضيقة لوعيهم وصناديق أموالهم". أما بانونزيو وبوتاي فقد سارا على هدي دوركهايم في تقريظ فضائل "المجتمع المدني"، على أساس أنَّ الجمعيات الطوعية المختلفة هي أساس الحرية. لكنهما رأيا أنَّ علة هذه الجمعيات أن تكون مندمجةً كجزء لا يتجزأ من دولة جامعة وعامة يمكنها عندئذٍ أن تمثّل مصالح الأمة ككل. وقالا إنه من غير الربط بين الدولة والجمعيات المختلفة سوف تغدو الدولة "فارغة" وتعاني من "قصور في محتواها الاجتماعي"، كما هي حال الدولة الليبرالية (رايلي 2002: الفصل 1). وبالمقابل، فإن الدولة الفاشية هي دولة "جامعة" و"اجتماعية"، تقوم على روابط وأواصر متينة. ومرّة أخرى، فإن ذلك يبدو حديثاً تماماً، كما لو أن بانونزيو وبيرث يصوّبان على الليبرالية الجديدة التي سيطرت بعد مئة عام من كلامهما هذا.ولقد هاجم المفكرون الفاشيون أيضاً اليسار الواقع في إسار "مادية برجوازية". ورأوا أنَّ مزاعم هذا اليسار الثورية قد افتُضِحَت من خلال القوة المحركة العظمى التي تثير الحرب بيم أممٍ كاملةٍ. فالأمم، وليس الطبقات، هي جماهير الحداثة الحقيقية. والصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال ليس جوهر المشكلة. وبدلاً من ذلك، فإنَّ الصراع الحقيقي هو بين "عمّال جميع الطبقات"، "الطبقات المنتجة"، الذين يقفون صفاً واحداً ضد الأعداء "غير المنتجين"، الذين يتطابقون في العادة مع الرأسماليين الماليين أو الأجانب أو اليهود، والذين يقفون في وجه العمال المنتجين من جميع الطبقات. وقد كتب الفرنسي فالوا يقول: "القومية + الاشتراكية = الفاشية"، أما الإنجليزي أوزوالد موسلي فقال: "إن كنت تحب بلدك فأنت قومي، وإن كنت تحب شعبك فأنت اشتراكي". وهذه الأفكار كانت تتمتع بجاذبيةٍ في أوائل القرن العشرين، "عصر الجماهير"، حيث وعد الفاشيون ب"التعالي" على صراعٍ طبقيٍ بدا حينئذٍ وكأنه يمزّق النسيج الاجتماعي. بل إنَّ طبعاتٍ مُخَفَّفَةً من هذه المزاعم التي تقول بالتعالي قد تمّ تبنيها من قِبَلِ معظم الحركات السياسية الناجحة في القرن العشرين.وعلى الأمة أن تتمثّل من خلال دولة جامعةٍ، تعاونية. ويمكنها أن "تتعالى" على التفسّخ الأخلاقي والصراع الطبقي في المجتمع البرجوازي عبر "خطةِ كليةٍ" توفّر "سبيلاً ثالثاً" دولتياً بين الرأسمالية والاشتراكية. وقد زعمت الفاشية الإيطالية أنَّ الفاشية قد حلّت "التناقض بين الحرية والسلطة. فسلطة الدولة هي سلطةٌ مطلقة". وقال موسوليني: "كل شيء في الدولة، لا شيء ضد الدولة، لا شيء خارج الدولة". وقال: "دولتنا ستكون دولة كليانية في خدمة سلامة أرض الآباء"، مستذكراً بذلك الإسباني حوسيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا. أما البلجيكي هنري دي مان فقد أثنى على "الديمقراطية السلطوية". وقال الفرنسي ديات إنَّ "الثورة الفاشية" سوف تنتج "الإنسان الكلي في المجتمع الكلي، دون أيّ صدامات، دون أي إرهاق، دون أيّ فوضى".
غير أنَّ ذلك في المستقبل. أمّا الآن، فإنَّ على الأمة أن تناضل ضد أعدائها لكي تحقق ذاتها. ويجب أن يقود ذلك النضال نخبة شبه عسكرية مقاتلة. وقد صادق الفاشيون الأشدّ جذرية على "القتل الأخلاقي". وزعموا أن العنف الميليشياوي يمكن أن "ينظّف" و"يطهّر" و"ينعش" النخبة التي تقترفه، ومن ثمّ يفعل ذلك بالأمة ككل. ولقد عبر عن ذلك فالوا بأشدّ ما تكون القسوة:
إلى البرجوازي الذي يلوّح مهدِّداً بعقوده وإحصاءاته:
- اثنان زائد ثلاثة يساوي....
- صفر، يردّ البربري، وهو يهشّم رأسه
فالفاشي "البربري" عند فالوا يمثّل الأخلاق لأنه وحده من يمثّل جماعة الأمة العضوية، التي تنبع منها جميع القيم الأخلاقية. وبالطبع، فإنَّ كثيراً من هذه الأقوال كان مجرد استعارة أدبية بالنسبة لهؤلاء المفكرين الذين كانوا يقطنون العالم ما بعد النيتشوي ذاته الذي ولّد المذهب الحيوي، والسريالية، والدادائية. غير أنَّ الفاشيين العاديين سوف يستخدمون لاحقاً في نشاطاتهم هذه الضروب ذاتها من التبرير.ويلاحظ أوسوليفان (1983: 33-69) أنَّ الفاشيين يكرهون ما للديمقراطية الليبرالية من طبيعة "محدودة"، وما تتميز به من شكلٍ للحكم ناقص، وغير مباشر، و"تمثيلي" وحسب (بدلاً من أن يكون مباشراً). فالديمقراطية الليبرالية تتسامح مع صراعات المصالح، والحجرات المملوءة بدخان السجائر"، و"الصفقات المعقّدة"، والتسويات "القذرة" و"غير المبدئية". وقبول ضروب النقص وفكرة التسوية هو عملياً جوهر كلٍّ من الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية. وهذا ما يختزل "الأعداء المحتملين إلى مجرد "خصوم" يمكن عقد الصفقات معهم. وهؤلاء الديمقراطيون أبعد ما يكونوا عن الأبطال وفكرة البطولة. وعلينا ألا نتوقع من ساستنا الديمقراطيين أن يكونوا مبدئيين أشداء. ونحن نحتاج إلى عقيدتهم الأداتية، وصفقاتهم القذرة. لكن الفاشيين ليسوا كذلك. فهم يرون السياسة نشاطاً بلا حدود يرمي إلى تحقيق مطلقات أخلاقية. وبحسب ماكس فيبر، فإن هذه "عقلانية قيمية"، أو سلوك موجَّه باتجاه تحقيق قيم مطلقة، وليس مصالح أداتية وحسب.وينطوي هذا على محتوى انفعالي شديد. وقد نظرت الفاشية إلى ذاتها على أنها صليبية. ولم ينظر الفاشيون إلى الشرّ على أنه ميل كوني في الطبيعة البشرية. بل نظروا إليه، مثل بعض الماركسيين، على أنّه مُجَسَّد في مؤسسات اجتماعية محددة ويمكن تالياً أن يُطَاح به. ويمكن للأمة أن تكون كاملة مكتملة إذا ما كانت عضوية وطاهرة. وكما يلاحظ أوسوليفان، فإنَّ القائد الفاشي الروماني كودريانو كان مثالاً متطرفاً على هذا فكان ينظر إلى فيلقه، "فيلق رئيس الملائكة ميكائيل" على أنه قوة أخلاقية: "جميع المنظمات السياسية [الأخرى]... تعتقد أن البلد يُحْتَضَر بسبب غياب البرامج الجيدة؛ ولذلك فقد وضعت معاً برنامجاً ناضجاً تماماً بدأت من خلاله تجمع الأنصار". وبالمقابل، كما يقول كودريانو، فإنَّ "هذا البلد يموت من قلة الرجال، وليس البرامج. وعلينا أن نجد الرجال، الرجال الجدد". وهكذا سوف يعمل الفيلق على تحرير رومانيا من "قوة الشرّ". وسوف يشتمل على "أبطال"، وعلى "أسمى الأرواح التي يمكن لعقولنا أن تتصوّرها، وعلى أشجع الرجال، وأطولهم، وأقومهم، وأقواهم، وأذكاهم، وأبسلهم، وأشدهم كدحاً من بين ما يمكن لعرقنا أن ينتجهم". وعلى هؤلاء أن يقارعوا "الأعداء" الذين يلوثون الأمة (كودريانو 1990: 219-221). ورأى كودريانو أن العنف مشروع أخلاقياً في المعركة الدفاعية التي يخوضها الخير ضد الشرّ.غير أنه من الواضح أننا كي نفهم الفاشيين ينبغي أن نمضي إلى أبعد من المفكرين. فالسؤال هو كيف أمكن للأفكار التي أوردناها أعلاه أن تثير ملايين الأوروبيين وتحثّهم على الفعل؟ ما هي شروط الحياة الواقعية التي جعلت مثل هذه العواطف الاستثنائية تبدو معقولةً ومقبولة؟ ويميل ستيرنهيل إلى اعتبار أن الفاشية قد اكتملت قبل الحرب العالمية الأولى، متجاهلاً ما شهدته الحرب من تحوّل البلاغة الصاخبة التي كانت تلهج بها قلة قليلة إلى حركات جماهيرية كبيرة. ولعلّ الفاشية ما كانت لتتجاوز الهامش التاريخي من دون الحرب العالمية الأولى. غير أنَّ استقصاء قيم الفاشيين اللاحقين ومشاعرهم ليس بالأمر اليسير. فمعظمهم لم يترك سوى سجلٍّ بسيط يحمل الآراء التي عبروا عنها. والذين فعلوا ذلك من بينهم، عمد معظمهم إلى الكذب (ذلك أنّ حياتهم كانت في خطر في تلك الفترة).